انزلوا عن ظهرنا

طالما نصَّبت الولايات المتحدة الأمريكية من نفسها شرطيًا عالميًا، يستند إلى مرجعته الوحيدة وفهمه الخاص لأمور تنظيم الدول والجماعات وحقوق الإنسان والنظم السياسية والاجتماعية والثقافية، ثم يكتب أسماء الدول على قوائمه البيضاء والسوداء بحسب تسلسل ومعايير لم يناقش فيها أحدًا، وما تذبذب علاقات واشنطن مع الرياض خلال العقد الأخير إلا نتاج لهذه السياسة الأمريكية التي ينتهجها الرؤساء الديمقراطيون خاصة، فيما ظلت السياسة الخارجية السعودية ثابتة راسخة على مدى الزمن.

التاريخ لا يعيد نفسه بالنسبة للرئيس الأمريكي جو بايدن ولا بالنسبة لسلفة باراك أوباما، وهم غير قادرين على قراءة فصول الدم والدمار والخراب التي أسفرت عنها سياستهم في منطقتنا، والتي بدأت مع غزو العراق على يد بوش الابن، وإذا كان هناك من يجب محاسبته أمام محكمة الرأي والضمير العالمي فهم الساسة الأمريكيون الذين تسببوا بـ«الخريف العربي» وما نعيشه اليوم من حروب واضطرابات وفتن وجوع وقهر.

والأحرى بالإدارة الأمريكية الحالية فتح ملفات وإيميلات وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلنتون ومحاسبتها، ليس ملف صحفي سعودي كان هو ذاته إحدى ضحايا مشاريع الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة مثل «الشرق الأوسط الكبير» و«الفوضى الخلاقة» و«الربيع العربي»، فقد كان المواطن السعودي جمال خاشقجي يعيش في كنف الدولة السعودية ويحظى بامتيازات قلَّ نظيرها، لكن رياح التغيير جرفته إلى الخندق المواجه لدولته ووطنه وتحول من أداة بناء إلى معول هدم.

أنا لا استغرب إقدام الديمقراطيين على تأزيم الموقف مع السعودية لأغراض سياسية أعرف بعضها وأجهل بعضها الآخر، والرسائل التي تصل من إدارة بايدن في هذا الشأن متناقضة، عند جمعها مع بعض تجد أن عنوانها يصبح: السعودية شريك بل حليف مهم جدا في المنطقة تجب معاقبته!

شكل مقتل جمال خاشقجي صدمة لنا جميعًا، وللقيادة السعودية أيضًا، لكن السعودية أدارت هذا الملف الشائك بطريقة مسؤولة شجاعة حصيفة، فأقرت أولاً بوقوع جريمة القتل، ثم ألقت القبض على المشتركين بهذه الجريمة وأخضعتهم لمحاكمة عادلة استوفت جميع المعايير العدلية والإجرائية، وبحضور ممثلين عن دول العالم، ثم أصدرت أحكاما بحقهم، وجرى إغلاق القضية وطيّ هذا الملف إلى غير رجعة، حتى أن أسرة خاشقجي ذاته أعربت عن ارتياحها لسير العدالة وخواتيمها.

فلماذا تأتي إدارة بايدن الآن وتنكأ في هذا الجرح الذي ارتحنا جميعا إزاء التئامه؟ لماذا تستعيد كوابيس سوداء طالما أرّقتنا؟ لماذا تعيد علينا هذا الفيلم المأساوي من البداية؟ وما هي النتائج التي تتوخاها من ذلك؟ هل دافعها خلف ذلك إخلاصها لمبادئ حقوق الإنسان؟ أنا شخصيا مع حقوق الإنسان، حالي حال كل الناس والقادة هنا، ولكن هل تعني حقوق الإنسان دعم الفتن والاضطرابات وإخراج الناس إلى الشوارع وتحريضها على الصدام مع السلطات؟ ماذا حققت أمريكا من ذلك سابقًا؟ وما الذي تفكر أنها ستحققه الآن؟.

الظروف السياسية والدولية وحدها هي من جعل من مقتل خاشجقي قضية بهذا الحجم. وأسهم الضخ الإعلامي المهووس وغير المسبوق الذي صاحب هذه القضية في تأجيجها أكثر وأكثر، ولا يجب أن ننسى كيف تعاملت إدارة الرئيس التركي رجب أردوغان معها عندما كانت مخابراته تسرّب كل يوم معلومة صغيرة على مدى أسابيع وأشهر فقط لإبقاء أعين العالم مفتوحة على القضية، ومواصلة الضغط على السعودية وابتزازها، في تصرف يتصف بأقصى درجات الخسّة والدناءة، لكن ديدن المتطرفين دائما وسياستهم وأساليب تعاملهم القذرة في الوصول إلى غاياتهم.

أود إبلاغ إدارة بايدن بالخبر الخطير غير العاجل التالي: لقد أقدم النظام الإيراني جهارًا نهارًا على تنفيذ حكم الإعدام في الصحفي المعارض روح الله زم بعد أن اختطفه ميليشيات إيران في العراق وأحضرته عنوةً إلى طهران، حيث كان في زيارة للعراق قادمًا من منفاه في باريس. وما هي فعلته التي استحق الموت لارتكابها؟ إنها إدارة موقع إخباري معارض، إما التهمة فهي «الإفساد في الأرض»! لينضم بذلك إلى مئات وربما الآلاف من الإيرانيين الذين لقوا حتفهم على يد نظام الملالي زورًا وبهتانًا.

السجون التركية أيضًا تغص بعشرات وربما مئات آلاف الصحفيين والقضاة وأساتذة الجامعات والمثقفين وكبار موظفي الدولة والجنرالات والناس العاديين وكل من اكتشف عسس أردوغان أنه تكلم مع زوجته بكرهه لأردوغان وحزبه، الذي أصبح الآن في تناقض صارخ مع اسمه «العدالة والتنمية»، حيث أصبحت العدالة في تركيا عرجاء بعدما سيطر أردوغان على القضاء والإعلام، كما فقدت تركيا جميع مكتسبات التنمية وتدهورت عملة البلاد ومعها الاقتصاد وبات التضخم ينهش معيشة الاتراك.

الولايات المتحدة نفسها أسهمت في كثير من المآسي حول العالم. احتلت العراق وخرَّبته انطلاقًا من كذبة امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل، فهل ستحاسب إدارة بادين الأمريكيين الضالعين في هذه الكذبة؟ هل تذكر إدارة بايدن سجن أبوغريب ومعتقل غوانتانامو الأمريكي الشهير الذين هزت قصص التعذيب فيهما ضمائر العالم الحر؟ هل تذكر قصص القتل خارج القانون حتى لمواطنين أمريكيين مثل أيمن العولقي؟

في لبنان أصدرت المحكمة الدولية المعنية باغتيال الرئيس الحريري حكمًا قطعيًا بتجريم سليم عياش، أحد عناصر أو قيادات حزب الله، ورغم كل ما أنفق من أموال على هذه المحكمة إلا أن حكمها لم ينفذ، والحزب رفض تسليم الجاني، وإذا أردنا أن يكون للعدالة الدولة أنياب يجب أن يتدخل الشرطي الأمريكي. طبعًا جريمة اغتيال الحريري واحدة من سلسلة جرائم اغتيالات أخرى طالت جبران تويني ووسام الحسن وغيرهم الكثير وما زال مرتكبوها فارين من العدالة.

أعرف جمال خاشجقي شخصيًا، وجمعتنا لقاءات عامة عديدة تخللها تبادل الأحاديث والعشاء، وأحببت فيه الإنسان وكرهت فيه المواقف، فمن يعمل ضد مصلحة وطنه يسقط من أعين الجميع، وطالما بقيت أمريكا وكندا وبريطانيا ومن لفَّ لفَّها من الدول الغربية تحرض مواطني دولنا على الخروج عن النظام والقانون وتوفر لهم ملاذات آمنة سيبقى الاستقرار والازدهار والتنمية مُهدَّدًا في منطقتنا، ورسالتي لهم واضحة: لقد تعبنا منكم، انزلوا عن ظهرنا.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s