مرَّت الأسبوع الماضي مناسبة اليوم العالمي للغة العربية، ربما لم ينتبه الكثير من العرب لذلك، فهم مشغلون في قضايا أخرى غير لغتهم التي تمثل بحق أحد أهم أسباب بقائهم كأمة بين الأمم، وأرضية صلبة يمكن البناء عليها لاستعادة أمجادهم ودورهم الحضاري والثقافي الرافد لحاضر ومستقبل البشرية.
ربما ينظر البعض إلى طرحي هذا على أنه مستهلك ميؤوس منه عفا عليه الزمن في واقع يبدو فيه الجميع فقد الحماس والأمل في إحياء اللغة العربية انطلاقا من مقولة «الضرب في الميت حرام» و«إكرام الميت دفنه»، خاصة وأننا شهدنا أيام المد القومي العربي تحديدا الكثير من محاولات إعادة الألق للغتنا، بما في ذلك إنشاء مجمعات اللغة العربية في كثير من الدول العربية، وجهود التعريب في دول المغرب العربي بعد أن عاشت لعقود تحت نير الاستعمار الفرنسي، إضافة إلى جهود تعريب المناهج والإعلام وصولا إلى الدراما والمسلسلات التلفزيونية، لكن تلك المحاولات لم تحقق مع الأسف النجاح المطلوب.
وفي الواقع هذا حالنا مع الأسف نحن العرب في كثير من القضايا المصيرية، نقف في مساحة رمادية بمنتصف الطريق بين ما كان وما نتمنى، ونختلف دائما حول مسألة تحديد الاتجاه الذي يجب أن نسير فيه لنصل إلى هدفنا، هذا إذا كنا أساسا متفقون على الهدف الذي يجب أن نصل إليه.
دساتير جميع الدول العربية بحسب علمي تنص على أنها دول عربية، لغتها الرسمية هي العربية، لكن مع الأسف يقف هذا الأمر عند النص الدستوري فقط، ولا نجد له تطبيقا عمليا كما يجب، فتنتشر الثقافات الأجنبية بلغاتها في دولنا، ويتحدث أولادنا مع بعضهم البعض بالإنكليزية، ومن بينهم من يكتب كلمة سلام أو السلام عليكم عبر الواتساب بأحرف إنكليزية!.
اللغة العربية يا أصدقائي، وبحسب منظمة الأمم المتحدة نفسها، هي ركن من أركان من أركان التنوع الثقافي للبشرية. وهي إحدى اللغات الأكثر انتشارًا واستخدامًا في العالم، إذ يتكلمها يومياً ما يزيد على 400 مليون نسمة من سكان المعمورة، ويتوزع متحدثو العربية بين المنطقة العربية وعديد المناطق الأخرى المجاورة مثل تركيا وتشاد ومالي السنغال وإرتيريا، وتتجاوز أهمية اللغة العربية حدود الوطن العربي لتنتشر حيثما انتشر المسلمون في أصقاع الأرض، فهي لغة القرآن الكريم، ولا تصح الصلاة إلا بها، كما أن العربية هي كذلك لغة شعائرية رئيسية لدى عدد من الكنائس المسيحية في المنطقة العربية، حيث كتب بها كثير من أهم الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى.
وتذهب منظمة الأمم المتحدة أيضًا لتأكيد أن اللغة العربية سادت لقرون طويلة من تاريخها بوصفها لغة السياسة والعلم والأدب، فأثرت تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر في كثير من اللغات الأخرى في العالم الإسلامي، مثل: التركية والفارسية والكردية والأوردية والماليزية والإندونيسية والألبانية وبعض اللغات الإفريقية الأخرى مثل الهاوسا والسواحيلية، وبعض اللغات الأوروبية وخاصةً المتوسطية منها كالإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية اليونانية والرومانية إلى أوروبا في عصر النهضة، كما أتاحت إقامة الحوار بين الثقافات على طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير من سواحل الهند إلى القرن الأفريقي.
لدي اهتمامات كبيرة بالصورة والصور المتحركة، ويكفيني فخرًا أن مخترع التصوير هو العالم العربي ابن الهيثم، الذي لاحظ كيف يعكس الضوء الذي يمر عبر فتحة صغيرة في جدار غرفة مظلمة صورة جميلة لمشهد خارجي، وانطلاقًا من هذه الملاحظة تمكن من اختراع ما سماه حينها «قُمرة»، أي العُلبة المظلمة، والتي كانت أول جهاز تصوير تعرفه البشرية، ومنه انتقلت للعام الذي سماها كما يعرفها الجميع اليوم بـ«كاميرا».
هذا مثال صغير على اعتقادي بأن محاولات إنقاذ اللغة العربية لا يجب أن تقتصر على اللغة ذاتها، فاللغة هي نتاج لواقع التقدم العلمي والفكري والثقافي للأمم، كما حدث عندما كانت الأمة العربية والإسلامية في أوج حضارتها وتناقلت أمم أخرى العلوم عنها، بما في ذلك المصطلحات والتسميات التي أطلقها العرب على ابتكاراتهم ونظرياتهم، كما ازداد حينها الاهتمام بتعلم اللغة العربية وتدارسها لأنها كانت لغة العلم والتقدم، تمامًا كما هي الآن اللغة الإنكليزية، ومن الخطأ الاعتقاد أن اللغة العربية لغة أدب وشعر وخيال وعاطفة فقط، بل كانت لغة علم أيضًا، ومن الأمثلة على ذلك مساهمات العلماء العرب في الرياضيات والجبر والخوارزميات، إضافة إلى الطب والكيمياء والبصريات وغيرها.
لست خبيرا أو مختصا لغويا، لكن من خلال معاينتي اليومية أؤكد أنه توجد حاجة ملحة الآن لصون سلامة اللغة العربية الفصحى من خلال جعلها متوافقة مع متطلبات المشهد اللغوي المتغير اليوم، خاصة بعد أن أدت التطورات التكنولوجية والاستخدام المكثف للغات العالمية مثل الانكليزية والفرنسية إلى عديد التغييرات في استخدام اللغة العربية، فعلى نحو متزايد، تحل هذه اللغات الأجنبية محل اللغة العربية في التواصل اليومي وفي المجال الأكاديمي، فضلاً عن ذلك، يتناقص استخدام اللغة العربية الفصحى، حيث يستخدم عدد متزايد من الناس اللهجات العربية المحلية.
لكن يجب أن أقول إنه عندما أرفع اللغة العربية إلى مرتبة التقديس فأنا لا أعني إهمال دراسة اللغات الأخرى، بل إنني أشجع على أن يتعلم أولادنا حتى اللغة الصينية، وكان أبي رحمه الله يقول لي: كلما تعلمت لغة أخرى أضفت إلى نفسك شخصًا آخر، لكن، ورغم إتقاني للإنكليزية والفرنسية، إلا إنني حرصت طيلة حياتي على التعامل باللغة العربية ما أمكن، حتى أنني أفكر بشكل أساسي بالعربية، ثم أترجم أفكاري إلى الإنكليزية عندما أكون مضطرا للتحدث بها.
اللغة العربية تجمعنا على اختلاف أعراقنا وأدياننا ومذاهبنا، وستبقى كذلك ما دامت حية بحياة وخلود القرآن الكريم، فهل الحامل لحضارتنا وتاريخنا وجسر العبور نحو مستقبلنا، وكما قال مصطفى صادق الرافعي «لا تموت أمة لغتها حية»، فدعونا يا أخوتي لا نخجل من لغتنا، ولا ننظر إليها بحزن ورأفة، بل نبذل محاولات جادة لإنقاذها، كل بحسب مكانته وإمكانياته، وإن كان ذلك على نطاق شخص أو نطاق الأسرة فقط.