السمعة صنعة

مهما تطورت أنظمة الفصل في المنازعات التجارية وكان النظام القضائي متطورًا ويعمل بأقصى درجات السرعة والنزاهة وكان مستوى العقود والوثائق والضمانات في التعاملات التجارية وتنفيذ المشاريع والديون، يبقى حرص التجار ورجال الأعمال أنفسهم على الإيفاء بالتزاماتهم تجاه بعضهم البعض والتزامهم بوعودهم وإخلاصهم لكلمتهم هو القاعدة الصلبة الراسخة لاستقرار الأعمال التجارية والدرع الواقي للمجتمع من دوامة المنازعات القضائية والمهاترات الشخصية وتأخر تنفيذ الأعمال والمشاريع وما يترتب على ذلك من أضرار اقتصادية واجتماعية.

وفي حالات الركود الاقتصادي وضعف الأسواق وشح السيولة تطفو على السطح مشاكل تجارية مرتبطة بعدم قدرة التجار على سداد التزاماتهم المالية تجاه موظفيهم وتكاليف تشغيل أعمالهم مثل الإيجارات والصيانة وغيرها، فيتوقف الموظف عن سداد التزاماته تجاه مدرسة أولاده، التي تتوقف بدورها عن سداد فواتير الكهرباء، وهكذا ندخل في دوامة مفرغة من ظاهرة عدم السداد، تماما كما يحدث عندما تضعف قدرة القلب على دفع الدماء في الجسم فتبدأ الشرايين والأوردة بالانسداد هنا أو هناك، والخروج من هذه الدوامة بأقل الأضرار الممكنة يكون عبر صدق وشفافية التعامل والالتزام، وليس التأجيل والتسويف والكذب وكتابة شيكات دون رصيد.

لم تكن حياتي كلها نجاحات، بل تعرضت للإفلاس أكثر من مرة، خاصة في مرحلة البدايات، لكن في كل مرة كنت التزم بسداد ما عليَّ من ديون ومستحقات رغم عدم وجود وثائق تلزمني بذلك، وكان هذا الالتزام يحملني أعباءً كبيرة ويتطلب جهدا طويلا مضنيا، لكنه على المدى الطويل صنع سمعتي كرجل أعمال يحترم كلمته، وأكسبني ثقة التجار والناس بي، وشكل أرضية صلبة لنجاحات أعمالي ومشاريعي في مراحل لاحقة من حياتي.

لدي خبرات عميقة جدا في التعاملات التجارية، ولدي أيضا فريق منوع من المحامين بعضهم ذوي خبرات دولية عريقة، لكني أحرص دائما على التعامل مع رجال أعمال وتجار ذوي سمعة مرموقة، واعتقد أنهم يبادلونني نفس الحرص، وأنا فخور بالفعل بالكثير من التجار البحرينيين الذين عملت ولا زلت أعمل معهم في مشاريع تشاركية ننفذها سويا، وتسهم في التنمية الاقتصادية والحضارية لمملكة البحرين.

أحرص على أن يكون ارتباطي مع شركائي بالكلمة، والمصافحة، وبعدها تأتي الوثائق والعقود، وأنا مؤمن أن تعبي وعرقي هو السبيل الوحيد لنجاحي، ولن أغير نهجي في الحياة، وأنا أؤمن بنفس الوقت بصداقة وصدق من أتعامل معهم، وأدرك أيضا أنه ليس من الفهلوية تضمين العقود بنودا مبهمة لاستخدامها لاحقا ضد الآخرين. من الفهلوية أن تحمي نفسك كتاجر، لا أن تستغبي وتستغل الآخرين الذين وضعوا ثقتهم بك، عندها سيقال عندك في السوق بأنك «رجال»، صادق تفي بكلمتك ووعدك.

هذا لا يعني أنني لم أتعرض للغش والخداع والتدليس طيلة حياتي العملية من قبل أشخاص سيئين، فهناك من خيب ظني وخذلني وغشني، بل وبعضهم سرقني، لكنها طعنات لم تنل من جسدي، وغالبا ما أتنبأ بالغدر قبل وقوعه، ثم أن المثل يقول «قد تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، أو تخدع بعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت».

من حقك كتاجر أن تكون طموحا، بل يجب أن يكون الطموح أحد صفاتك الأساسية، لكن احذر من أن تكون طماعا، لأن الطمع ربما يقودك إلى فعل أي شيء من أجل المال، وسمعت مرة أستاذا في جامعة هارفرد يقول إن إحدى الأمور التي يحرصون على غرسها في أذهان الخريجين هي «الانتباه من دخول السجن»، وربما يكون هذا أمرا غريبا، لكن الأستاذ رد بأن الجامعة لاحظت أن العديد من خريجيها ينتهي بهم المطاف في نهاية الأمر إلى السجن، والسبب في ذلك هو حماسهم الزائد وشغفهم خلف المال والمزيد من المال والمزيد المزيد من المال، ثم يصبحون على استعداد لفعل أي شيء من أجل المال.

وأنا اعتقد أن أحد أهم أسباب الأزمة المالية العالمية التي حدثت في العام 2008 هو الطمع أو الجشع، حيث بحثت البنوك الكبرى عن الربح السريع بأي ثمن، واتخذت القرارات على أساس ربحي فقط دون النظر لأي اعتبارات أخرى أخلاقية أو اجتماعية، وهذا حقق لها أرباح هائلة في فترة قصيرة، لكنها عندما انفجرت الفقاعة عصفت قبل كل شيء بتلك البنوك ذاتها.

وقد أصبح الاحتيال المالي أكثر تهديدا لنا الآن بسبب شيوع وانتشار التجارة الإلكترونية، التي تعتمد إلى حدٍ كبير على الإنترنت، وما يصاحبها من غش ومخالفات أخلاقية، حيث لا تماس فيزيائيا بين أطراف العملية التجارية، بسبب صعوبة السيطرة الحكومية على مجرياتها.

لكن حتى في هذه الظروف نجد أن الشركات التي تستمر وتنمو عبر الانترنت هي تلك التي تتبنى المعايير الأخلاقية في العمل، كتسليم الزبائن حاجاتهم التي يستحقونها، وتزويدهم بمنتجات مأمونة، ومعلومات وفيرة، بشكلٍ يتماشى مع مضامين العمل الأخلاقي، وبما يجعل الزبائن مطمئنين ومقتنعين من أن هذه المنظمة قد اتخذت من الأبعاد الأخلاقية معياراً يميزها في ميدان تنافسي شديد، وبشكل يضمن ديمومة تعامل الزبائن معها.

أسعار النفط ارتفعت لكنها لا زالت دون المستوى المأمول، وكورونا سيبقى لأشهر قادمة وربما طيلة العام حتى مع تسريع عمليات اللقاح، والندبات التي تركها هذا الفيروس في جسد الاقتصاد لن تزول سريعا، فيما تكاليف الحياة والأعمال ترتفع والتضخم يزداد، لذلك علينا كتجار وأفراد أن نحرص كل الحرص على تدبير أمورنا بما هو متاح أمامنا من موارد، وأن نضمن استدامة أعمالنا، ولنثبت للجميع مرة أخرى أنه من غير الصحيح القول إن التجارة والفضيلة لا يجتمعان، فكثير من التجار أهل فضل وفضائل وأخلاق، يلتزمون بكلمتهم ويجتهدون لتنمية ذاتهم وأسرهم ومجتمعهم ووطنهم.

فرجائي لأخواني التجار، خاصة أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة، أن يدكوا أن التحديات الاقتصادية التي نعيشها الآن كما يعيشها كل العالم تقريبا ستنتهي عاجلا أو آجلا، ويعود الازدهار للأعمال من جديد، وأن يصرفوا وقتهم على إعادة بناء نماذج أعمالهم لتواكب التغيرات الكبيرة في الأسواق وحاجات وسلوكيات المستهلكين، وأن يكتشفوا الفرص الجديدة في الأعمال، وأن يتجهوا ليس إلى شركاتهم فقط فيعملوا على تقليل تكاليف التشغيل، بل حتى ينتبهوا إلى مصاريفهم الشخصية والعائلية أيضا، وأن يحرصوا على سمعتهم التجارية، فهي رأس مالهم الذي إن ضاع لا يمكن بناؤه من جديد.

* رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسفن القابضة

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s