الوجوه في أمريكيا لكن التوجهات السياسية الخارجية تبقى واحدة، حتى في ظل رؤساء متناقضين مثل جورج بوش الابن المولع بشن الحروب وباراك أوباما المتلون المتردد، بقيت الثوابت الأمريكية ذاتها، في مقدمتها مصلحة أمريكا وإدارة العالم كشرطي وحيد والتفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي وطبعا حماية إسرائيل.
وليس من الواضح تمامًا ما سيؤول إليه الاتفاق النووي مع إيران في عهد بايدن، فالطرفان يرفعان سقف التوقعات، لكن الهيبة الأمريكية مطلوبة في كل الأوقات، الهيبة التي أهانها أوباما وأعادها ترمب، وأريد أن أذكَّرَ بأمر مهم هنا: هل لاحظتم أننا لم نعد نسمع تهديدا إيرانيا بإغلاق مضيق هرمز بعدما تأكد لقادة إيران مدى جدية ترمب في استخدام القبضة الأمريكية الضاربة؟
لقد جرت تغييرات كبيرة في المنطقة خلال الأشهر السابقة، في مقدمتها بناء علاقات شبه طبيعية بين دول البحرين والإمارات والسودان مع إسرائيل، والهدف من ذلك أولا وقبل كل شيء المحافظة على أمن واستقرار المنطقة، بعدما أثبتت إسرائيل على الدوام أنها المصلحة الأمريكية الأولى في العالم، والمهمة الآن على إسرائيل هي إقناع الإدارات الأمريكية بوجهة نظر جديدة هي القبول بعالم عربي متصالح متسامح تقبل به إسرائيل ويقبل بها، ووقف أية مغامرات غير محسوبة تزعزع أمن المنطقة مهما جرى تغليفها بكلام جميل حول حقوق الإنسان وغيرها.
وفي الواقع ليس علينا أن نقلق من تغيير الإدارات الأمريكية، بل من الفهم الأمريكي الخاطئ للمنطقة، ومن أن ساكن البيت الأبيض يلعب بالنار عندما يفكر في إسقاط أو فرض أحلامه الوردية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان على دولنا، ولا يتعلم من دروس التاريخ.
لقد دعمت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ودولاً أخرى الثورة الإيرانية على الشاه في العام 1979، تحت العناوين البراقة ذاتها المتصلة بالحرية والخلاص من التسلط والدكتاتورية، وحدها المخابرات الروسية في ذلك الوقت تمتعت بقراءة أكثر دقة لواقع الثورة ومآلاتها، وقالت إنها ثورة شعبية عارمة على الظلم لكن سيتم اختطافها لا محالة من رجال الدين، وهذا ما حصل بالفعل، ودفع الجميع ثمن ذلك بما فيهم الولايات المتحدة نفسها.
الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن له شخصية مختلفة عن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، ومن الواضح أن الشخصيات التي اختارها لإدارته ستلعب الدور الأبرز في رسم السياسات الأمريكية للأعوام الأربعة القادمة على الأقل، لكن علينا جمعيا أن نعلم أن المصلحة الأمريكية ستبقى أولاً وقبل كل شي، مثلما كانت في عهد ترمب ولكن بغلاف مختلف.
لقد قال بايدن إن ولايته الرئاسية لن تكون ولاية أوباما الثالثة، رغم أن كل شيء يشي بأنه امتداد لفكر وتوجهات أوباما، بما في ذلك معظم الأسماء التي اختارها في إدارته، وعلى كل حال أنا اعتقد أن بايدن بسبب تقدمه في العمر فإنه يفكر في كتابة مذكراته منذ وقت طويل، وعليه أن يحرص أن يقرأ مذكرات أوباما التي صدرت في كتابه مؤخرًا (أرض الميعاد)، حتى لا تكون نسخة عنها.
عليه أن يعير اهتمامًا خاصًا بما ذكره أوباما في مذكراته تلك عن اتصال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي به، حين مارست الإدارة الأمريكية إبان ما يسمى «ثورات الربيع العربي» ضغوطًا على الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك للتنحي ومن الاحتجاجات المشبوهة في البحرين، دون اعتبار لتأثيرات ذلك على استقرار المنطقة.
كتب أوباما أن ولي عهد أبو ظبي قال «يظهر أن الولايات المتحدة ليست شريكاً يمكننا الاعتماد عليه على المدى الطويل. كان صوته هادئًا وأدركت أنه لم يكن طلبًا للمساعدة بقدر ما كان تحذيرًا»، وأضاف أوباما «لم يكن لدي طريقة أنيقة لشرح التناقض الظاهر، سوى الاعتراف بأن العالم كان فوضويًا، وبأنه في إدارة السياسة الخارجية، يجب علي الموازنة باستمرار بين المصالح المتنافسة، المصالح التي تشكلها اختيارات الإدارات السابقة والطوارئ المستجدة، وأنه إذا لم أستطع في كل حالة إعلاء أجندة حقوق الإنسان على غيرها من الاعتبارات، فإن ذلك لا يعني أنني لا يجب أن أحاول فعل ما بوسعي، عندما أستطيع، لتعزيز ما اعتبرته أعلى القيم الأمريكية».
إن «أعلى القيم الأمريكية» تصلح في أمريكيا فقط، لكنها تفشل ذريعا في دول مثل العراق وأفغانستان والخليج العربي، ومأساتنا تتمثل في محاولة كل رئيس أمريكي جديد تجريب فرض تلك القيم بنفسه على منطقتنا حتى يقتنع من عدم جدواها، لكنه يترك خلفه خرابا تدفع ثمنه شعوب المنطقة قبل حكامها.
لقد آن الأوان ليعيد المفكرون والمُنظِّرون الأمريكيون والغربيون بشكل عام انتاج ثقافة جديدة أكثر شمولية وعالمية، تأخذ بعين الاعتبار طبيعة التركيبة البشرية وتركيبة المجتمعات خارج حدود دولهم، وتكون أكثر تواضعًا وأقل شراسةً، ثقافة تفهَّم وحوار وليس ثقافة «صراع حضارات» كما وصفها صمويل هنتنغتون.
لديهم في الغرب معتقداتهم الراسخة حول حقوق الإنسان وحرية الفرد وتداول السلطة وحتى المثلية الجنسية، يؤمنون بها ويرتاحون لها، ونحن لا نكفر بكل معتقداتهم، لكن لدينا في الوقت ذاته معتقداتنا الخاصة مثل احترام الكبير بل وتقبيل يده وتقديس شخص الرسول العربي الكريم والحفاظ على الأعراض وما إلى هنالك، نؤمن بها ومرتاحون لها.
عشنا ونعيش هنا في البحرين وباقي دول الخليج العربي تجربة رائعة في تعامل قياداتنا مع جائحة كوفيد-19، وتقليل آثاراها الصحية والاقتصادية على الناس هنا إلى أصغر حيز ممكن، لكن الولايات المتحدة مثلاً منيت بفشل ذريع في التعامل مع الجائحة، ولديها أكبر عدد من المصابين والموتى بالفايروس، وقبلها انهار النظام الصحي في إيطاليا، ودول أوروبية أخرى، فما السبب في ذلك يا ترى؟.
السبب هو النظام السياسي، نعم، النظام السياسي، فطالما كان النظام السياسي ممسوكًا من أعلى الهرم كان متماسكا وقويا، وشكَّل قاعدة صلبة للتنمية الصحية والاقتصادية والعمرانية والحضارية، أما في الأنظمة السياسية الهشة والأنظمة الديمقراطية التي تتقاذفها الأحزاب والتيارات السياسية المتنازعة المتباينة فتصبح كل القضايا الوطنية الكبرى عرضةً للطرح في بازار السياسة، ويختلف صناع القرار فيما بينهم حتى على مسألة بسيطة مثل جدوى ارتداء الكمامة للوقاية من عدوى فيروس كورونا.