في بداية ثمانينات القرن الماضي التقيت صدفة بوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، ثعلب عصره وكل العصور، ومهندس السياسة الخارجية الأمريكية حتى الآن كما اعتقد، هنري كيسنجر، رأيته حينها في بهو فندق المأمونية الشهير بمدينة مراكش المغربية برفقة زوجته، هرعت نحوه وسألته مباشرة: لماذا تفعلون هكذا ببلدي لبنان؟ لماذا تتركوه يغرق في أتون حرب أهلية لا تبق ولا تذر؟ أنتم يا سيدي لا تكتفون بالتفرج من بعيد على احتراق لبنان فقط، بل تتدخلون أحيانا لصب الزيت على النار هناك إذا شعرتم أنها ستنطفئ. عيب عليكم!
برصانته السياسية المعروفة، وصوته العميق منذ كان شابًا، التفت إليَّ طالبًا مني أن أُهدِّئ من روعي واندفاعي، وقال جملة واحدة فقط لا زلت أذكرها رغم مرور كل تلك السنين، قال بما معناه بالعربية «العيب على من يقبل لنفسه العيب».
لا زالت عبارة كيسنجر هذه تتردد في أذنيَّ كلما تابعت حدثًا سياسيًا داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو خارجها حيث تنتشر الأيادي الأمريكية بالقفازات البيضاء أو ببنادق الـ M16 في كل منطقة من العالم تقريبًا، في العراق وأفغانستان وأوكرانيا وتركيا وأوروبا وكوريا الجنوبية وبحر الصين وربما جزر البهاما أيضًا.
لقد تابعت مؤخرًا ولا زلت الانتخابات الأمريكية، ولست في وارد الحكم على مسيرتها أو نتائجها، لكن ما أثار انتباهي هو حجم الاهتمام العالمي بتلك الانتخابات، حتى أن الناس نسيت قضية جائحة كوفيد-19 التي عزلت العالم عن بعضه البعض، وتسمَّرت أمام أجهزة التلفاز والهواتف الذكية لمتابعة كل شاردة وواردة عن الانتخابات، وأصبحنا نعرف النظام الانتخابي الأمريكي والمجمع الانتخابي وأسماء الولايات والقضاة والساسة الأمريكية وكيفية احتساب الأصوات أكثر مما نعرف عن مجريات هذه الأمور في دولنا ربما.
هذا الاهتمام العالمي بالانتخابات الأمريكية يبرهن على ثلاثة أمور أساسية، أولها قوة أمريكا، فمهما تحدثنا عن قطب عالمي آخر مثل الصين أو روسيا إلا أن الواقع يقول إنه إذا «عطست أمريكا ينام العالم كله في الفراش»، وثانيها إقرار العالم من شرقه لغربه بهذه القوة العظيمة وجبروتها وغطرستها وانطلاقها من مبدأ «العيب على من يقبل لنفسه العيب»، أما ثالث الأمور فهو تعلق مصير العالم إلى حد كبير بما يقرره الناخب الأمريكي، ليس في قضايا السياسية والاقتصاد والحروب فقط، بل في قضايا البيئة والصحة والابتكار والتعليم وغيرها.
لقد قرأت تغريدة لصديق لي يقول فيها «لا يذهب الأمريكان للاقتراع وحدهم.. بل يأخذون العالم معهم»، وأنا أوافقه الرأي تماما، وكتبت تعقيبا حول أن الرئيس الأمريكي رئيس مجلس إدارة العالم شئنا أم أبينا، والبشر يتأثرون جميعا بقيادة أمريكا للعالم، في الحروب والاقتصاد والبيئة والفضاء..، لكنهم لا يصوتون في الانتخابات الأمريكية وليس للعالم حيالها مع الأسف لا صوتًا ولا حول ولا قوة!
في كل مرة تتم فيها المقارنة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس المنتخب جو بايدن وأيهما أفضل -أو أقل سوءا- بالنسبة لنا، أتذكر ما قاله لي هنري كيسنجر «العيب على من يقبل لنفسه العيب»، ورغم أني أُقرُّ بقوة أمريكا العسكرية والاقتصادية والمالية والسياسية والثقافية كأقوى أمة على وجه الأرض حاليا، إلا أنني أقول إنه ينبغي لنا كعرب أن نجد لنفسنا هامشًا أوسع للمناورة، وألا نقبل لنفسنا العيب.
من الخطأ الاعتقاد أن هذا الرئيس الأمريكي أفضل من ذاك، فأوباما الذي هللنا له على اعتباره أول رئيس ملوَّن وسيكون نصيرا للضعفاء وأصحاب الحق حول العالم جاء لنا بمفهوم «الفوضى الخلاقة»، وأسفرت مغامراته مع وزيرة خارجيته هيلاري كلنتون في منطقتنا بخراب واسع لا زلنا نعيش آثاره المدمرة حتى الآن، وقبله كان بوش الابن دمَّر العراق ومنح هذا البلد العربي الذي يعتبر سدًا منيعًا في البوابة الشرقية للوطن العربي لقمة سائغة لإيران، واعتقد أنه يجب على الإدارة الأمريكية الجديدة أخذ العبر من سياسات أوباما الفاشلة في منطقتنا.
لا نريد من الولايات المتحدة الأمريكية حمايتنا، نحن بالفعل قادرون على حماية انفسنا، وندفع ثمن ما نحصل عليه من سلاح سواء أكانت طائرات الـF35 الأمريكية أو أنظمة الصواريخ من أي دولة كانت، وشعبنا واعٍ لمصلحته محبٌ لوطنه ملتفٌ حول قيادته، ما نريده فقط هو التوقف عن محاولات ابتزازنا والتدخل في شؤوننا والحكم علينا بأننا على خطأ فقط لأن نظامنا السياسي والاجتماعي لا يتوافق تماما مع ما يسمى بأنظمة الديمقراطية الغربية.
أعود لأتذكر ما لم يقله لي هنري كيسنجر، بل نقل عنه قوله «إن من مصلحة أمريكا ليس حل الأزمات إنما الإمساك بخيوطها»، ومع كل رئيس جديد تعيد أمريكا توزيع الأوراق على اللاعبين القدامى والجدد على الطاولة، وتبتكر أساليب جديدة في اللعب حتى تصل للنتيجة ذاتها: «صولد».
أرى دبلوماسية نشطة في البحرين والإمارات والسعودية، واعتقد أن فكرًا سياسيًا رائدًا يجري تنفيذه حاليا من قبل جيل جديد من الدبلوماسيين بتوجيهات قيادات هذه الدول، مدعومًا بتقوية الجبهة الداخلية وتعزيز القوة الاقتصادية والعسكرية، جنبًا إلى جنب مع مزيد من جهود الانفتاح الثقافي والحضاري يتجلى مثلاً في إلغاء الإمارات العذر المخفف عن مرتكب ما يسمى بجريمة الشرف، وإلغاء السعودية لنظام الكفيل، أما التشريعات والقوانين الجنائية والعمالية وغيرها هنا في البحرين متقدمة جدًا وما نحتاج إليه فقط هو تسليط الضوء عليها عالميًا.
مع قدوم كل رئيس أمريكي جديد يعاد خلط أوراق اللعب ورميها على الطاولة من جديد، ومشكلتنا هي اعتقادنا أن إتقاننا وتطبيقنا للدروس التي تعلمناها سابقًا سيجعلنا نفوز بالعبة، أو لا نخسر كثيرًا على أقل تقدير، لكن ما يحدث فعليا هو أننا لا نعرف تماما ماذا يجري تحت الطاولة ومن هم اللاعبون الآخرون وكيف يتغامزون ويتآمرون، وما هي أساليب اللعب الجديدة المبتكرة من أجل الربح، وأتمنى أن نجد يومًا ما طريقة نكون نحن – وليس غيرنا – من يرمي ورقه أولا على الطاولة ويرفع صوته عاليًا أمام الجميع: «صولد»!