الحرب هي تاريخ البشرية وليس السلم، أما فترات السلم والازدهار فليست إلا «استراحة المتحاربين»، والحروب هي التي تغير باستمرار شكل العالم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وما الصراعات والفتن والثورات سوى أشكال أخرى للحرب، وما كتاب «فن الحرب» الذي كتبه سون تزو في القرن السادس قبل الميلاد ولا زال العالم يستلهم إرشاداته حتى اليوم إلا دليل على ذلك، وما حديث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن ضرورة مواجهة الإسلاموية أو الإسلام الراديكالي ثم رد الرئيس التركي رجب أردوغان عليه إلا امتداد لقرون طويلة من «صراع الحضارات»، هذه الجملة التي اختارها الكاتب الأمريكي المعروف صموئيل هنتنغتون عنوانا لكتابه الشهير.
لكن العقلاء كانوا أيضا دائما موجودين على طول الخط، وتاريخنا يخبرنا بأن العاقِلين: هرِم بن سنان والحارث بن عوف وضعا حدا لحرب داحس والغبراء بين قبيلتي عبس وذبيان في جاهلية العرب بعد أن طالت كثيرا وحصدت أرواحا كثيرة، وهذا ما دعا الشاعر زهير بن أبي سلمى لامتداحهما في معلقته الشهيرة، كما أنهت السعودية من خلال اتفاق الطائف حربا أهلية لبنانية امتدت لـ15 عامًا، واليوم نرى دولا مثل البحرين والإمارات والسودان تمدان يدهما لإنهاء مسيرة النزاع مع إسرائيل وإحلال السلام.
الحرب هي تاريخ البشرية وليس السلم، أما فترات السلم والازدهار فليست إلا «استراحة المتحاربين»، والحروب هي التي تغير باستمرار شكل العالم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وما الصراعات والفتن والثورات سوى أشكال أخرى للحرب، وما كتاب «فن الحرب» الذي كتبه سون تزو في القرن السادس قبل الميلاد ولا زال العالم يستلهم إرشاداته حتى اليوم إلا دليل على ذلك، وما حديث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن ضرورة مواجهة الإسلاموية أو الإسلام الراديكالي ثم رد الرئيس التركي رجب أردوغان عليه إلا امتداد لقرون طويلة من «صراع الحضارات»، هذه الجملة التي اختارها الكاتب الأمريكي المعروف صموئيل هنتنغتون عنوانا لكتابه الشهير.
أنا واحد من العامة الذين يحبون دائما أن يكونوا في صفوف العقلاء، ومن المؤمنين بأن الحروب بمختلف أشكالها تعود بالفائدة على عدد محدود جدا من الطامعين في تحقيق مكاسب شخصية، مالية أو سياسية أو ثأرية، فيما ويلاتها تطال معظم الناس، ولست أتحدث هنا فقط عن الحرب بشكلها التقليدي من خلال المدافع والطائرات، وإنما كل أنواع الحرب بما في ذلك الحروب الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية وغيرها.
ربما كِسِبَ ماكرون بتصريحاته العدائية ضد الإسلام الراديكالي بعض التأييد الشعبي من اليمينيين والعلمانيين -وهم أيضا راديكاليون بالمناسبة-، وأعاد بعض الألق لصورته كزعيم وحقق بعض المكاسب الانتخابية عندما ظهر كمدافع شرس عن قيم الثورة والجمهورية الفرنسية، لكن فرنسا كدولة لم تكسب شيئا، بل خسرت جزءا من سمعتها واحترامها، وتجارتها، وأصبحت أكثر عرضة لهجمات المتطرفين.
أردوغان من جانبه لعب نفس اللعبة السياسية لماكرون، فلا يمكن لهذا الزعيم العثماني الانتهازي إلا أن يستغل هذا الحدث كفرصة يُذكِّر من خلالها الجميع أنه خليفة المؤمنين وقائم مقام عموم المسلمين، فانهال على ماكرون بأقذع العبارات والصفات، فيما بدى أنه امتداد للمناكفات والكره المتبادل بين الرجلين منذ سنوات، فما كان من الاتحاد الأوربي إلا أن لام أو أنَّب أردوغان على تصرفه هذا، وبتنا أمام مسلسل تركي أو فرنسي أو مكسيكي طويل من الردح.
إذا كانت الحروب بمجملها شر كبير فإن أخطر أنواع الحروب هي الحروب الدينية، حيث يتحارب الناس، يَقتلون ويُقلتون من أجل الظفر بالجنة، ولا أعلم ما هي عقيدة الجيش الفرنسي القتالية، لكن أردوغان تمكن في مرحلة ما بعد الانقلاب من تحويل عقيدة الجيش التركي إلى الولاء له وللدولة العثمانية بتجلياتها الدينية وليس لتركيا العلمانية، كما يجري تصوير حرب أرمينيا وأذربجيان في كثير من الأحيان وكأنها حرب بين المسيحية والإسلام، وتزداد سلطة رجال الدين اليهود داخل الجيش الإسرائيلي ذاته، فيما تتسلح حركات مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي بالعقيدة الدينية أيضا، وأذكر في هذا السياق أن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قال ذات مرة إن الله هو من أمره بغزو العراق!
يُروى أن الجنرال الفرنسي هنري غورو عندما دخل على رأس جيشه محتلا دمشق توجه مباشرة إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي وضع حذاءه العسكري عليه وقال جملته الشهيرة «الآن عدنا يا صلاح الدين»، وقرأت أيضا ذات مرة أن الأوروبيين بشكل عام، والفرنسيين بشكل خاص، ما زالوا إلى اليوم يهتمون بالحروب الصليبية، ويقيمون فيها أبحاثاً تاريخية واقتصادية ودينية وأدبية.
وفي الواقع أنا لا أستطيع أن أفهم كيف لرجل سياسة مثل ماكرون ألا يعي كل ذلك ويقدم على مغامرة كهذه فيما هو يقدم نفسه كزعيم حضاري منفتح، ويسعى لإعادة فرنسا إلى المنطقة عن طريق بوابة لبنان أو دول المغرب العربي، ثم يغرد على حسابه على تويتر بالعربية بأنه لن يتراجع عن مواقفه!
فهل ما أقدم عليه الفتى الشيشاني من فعل شنيع بذبح استاذه الذي عرض أمامه صورا مسيئة للرسول الكريم يستدعي كل هذا التصعيد والجلبة؟ ألا يخشى ماكرون من أن قراره فرض ما يسميها بمبادئ الجمهورية الفرنسية على الجميع سيعود بأثر عكسي ويدفع متطرفين آخرين لارتكاب جرائم مماثلة؟
من الملاحظ أن حالة الاستهجان والاستنكار التي سادت معظم المسلمين إزاء فعل الذبح الشنيع للأستاذ الفرنسي أخذت اتجاها آخر بعد مباركة ماكرون لنشر الصور المسيئة في أمكنة أخرى من فرنسا وتصريحاته حول هذا الموضوع، فخطاب الكراهية مرفوض من أي طرف من الأطراف، والمبادئ العريقة للثورة الفرنسية تتحول إلى خطاب كراهية عندما يتم فرضها على الجميع دون مراعاة لأي اعتبار آخر، ولا يمكن إغلاق باب فرنسا على أتباع ومحبي جان بول ساتر، فهناك أشخاص لا يعتقدون به لكنهم في ذات الوقت مواطنون صالحون.
ولا يجب حصر المسلمين في فرنسا والغرب بالزاوية وجعلهم دائما محل اتهام، وكأنهم مذنبون دائما حتى يثبت العكس، يحذرون من التعبير عن معتقداتهم وممارسة شعائرهم، ومطالبين دائما بإثبات أنهم ليسوا إرهابيين، فهذا لن يؤدي إلا إلى مزيد من الضغط عليهم، وشدة الضغط تولد الانفجار.
لماذا الإصرار على السخرية من النبي العربي الكريم في الغرب ودوله تعلم مدى حساسية هذا الموضوع لدى مئات ملايين المسلمين حول العالم؟ هل تحول الموضوع إلى مجرد هواية خطرة يتسلى بها أصحابها؟ ألم يكن يجدر بالأستاذ المذبوح أن يستشعر الخطر ويجنب نفسه ويجنبنا كل هذا؟
ألا يرى ماكرون وغيره كيف أنه حتى المملكة العربية السعودية قبلة المسلمين وحاضنة الحرمين الشريفين تشهد انفتاحًا ثقافيًا وحضاريًا كبيرًا على الآخرين وانتهجت التعايش والتسامح وتفتح ذراعيها للجميع بمحبة وباتت تسير بخطى واثقة في هذا الاتجاه للأمام، فهل يعقل أن دولة مثل فرنسا تسير الآن للخلف؟ إنها دعوة لعودة زعماء طائشين مثل أردوغان وماكرون لجادة الصواب والبحث عن نقاط التلاقي والحوار والتنمية وليس مزيدا من الصراعات والصدامات والحروب.