حسنًا تفعل البحرين في مكافحتها للفساد بمختلف أشكاله من خلال الكثير من المبادرات النوعية، من بينها جهود وزارة الداخلية ممثلة بالإدارة العامة لمكافحة الفساد والأمن الاقتصادي والإلكتروني وحملات التوعية الكثيرة التي تقوم بها، أو من خلال إنشاء خط ساخن لمكافحة الفساد «نزاهة» وتشجيع المواطنين والمقيمين على الإبلاغ عن أية شبهات فساد، ومن خلال تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية أيضا والذي يعتبر مكاشفة جريئة ونزيهة لأي خلل في أجهزة الحكومة وتوجيه بعدم تكرار التجاوزات.
لقد أظهرت دراسة نشرتها منظمة الشفافية الدولية مطلع العام الجاري أن مملكة البحرين «شهدت تحسنًا طفيفًا في مجال مكافحة الفساد، وهي من الدول العربية القليلة التي تحسن ترتيبها مقارنة مع الأعوام الماضية»، ذلك في وقت أكدت فيه الدراسة ذاتها أن «الحرب على الرشوة والفساد لا تحقق نجاحًا في معظم دول العالم، بل وربما منيت بانتكاسات ملحوظة في أكثر من بلد. إن بلدًا مثل ألمانيا لم يستطع تحسين مستوى مكافحة الفساد، وإن مكافحة الفساد تراجعت حتى في أربع من الدول السبع الصناعية الكبرى»، ويمكن الرجوع لهذه الدراسة على موقع المنظمة على الانترنت والتأكد منها.
من الخطأ الاعتقاد أن مفهوم الفساد يقتصر على «الرشوة» من خلال قيام مسؤول ما بأخذ مقابل لتقديم خدمة بطريقة غير قانونية، فربما يكون هذا أحد أقل أشكال الفساد ضررًا، وبرأيي أن الفساد الأكبر هو الفساد السياسي، عندما يتحكم عديمو الضمير بمقاليد السلطة في بلدهم وينهبون أهله وموارده بجشع، يمتصون دمائه ويتركونه جيفة بلا حراك، مثل ما يحدث في دول كالعراق وسوريا واليمن وغيرها.
وفقًا لدراسة منظمة الشفافية الدولية المشار إليها آنفًا، تحتل دول ابتلت بكوارث الحرب الأهلية ذيل قائمة مؤشر مكافحة الفساد، ويقبع لبنان والعراق وسوريا واليمن في ذيل القائمة، لبنان يحتل المركز 137 منذ عام 2016. وجاء العراق في المركز 162، فيما تحتل سوريا المركز 178 بحصولها على 13 نقطة فقط، ما يدل على تراجع ملحوظ عن الأعوام الماضية. وحصل اليمن على المركز 177 بمجموع 15 نقطة وتراجع ملحوظ أيضًا عن الأعوام السابقة، وتحتل دولة عربية مركز الذيل في قائمة منظمة الشفافية الدولية وهي دولة الصومال التي تحتل المركز 180 والأخير بمجموع تسع نقاط من 100 نقطة، في حين تحتل دولة جنوب السودان المركز 179 بمجموع 12 نقطة فقط.
إذا كان الفساد أصل الشرور فإن الفساد السياسي أصل كل فساد، لأنه يذبح وطنًا كاملاً، ويتسبب في اضطرابات وثورات للجياع والمضطهدين، كما أن السياسيون الفاسدون يتقاتلون فيما بينهم عادة على حصة أكبر من كعكة الفساد، وهذ القتال ربما يتحول إلى حرب عصابات داخل البلد ذاته، فتقل مشاعر الوطنية بل وربما تنعدم عند الجميع، وتضيع الحقوق ويضيع القانون وتسود شريعة الغاب.
في لبنان مثلاً بات الفساد متجذرًا كالأرز تمامًا وربما أكثر، وأصحبت منظومة الفساد أكبر من الدولة ذاتها، وابتكر الساسة اللبنانيون -إلا من رحم ربي- أساليب فساد بعضها لا يخطر على بال الشياطين، وأصبحوا أستاذة في الفساد بالفعل، وباتت أساليبهم في الفساد مصدر إلهام للفاسدين حول العالم.
وأرى أن الفساد لا يقتصر على القطاع الحكومي، بل يشارك فيه القطاع الخاص أيضًا، فإذا كان هناك مرتشٍ فلا بد أن يكون هناك راشٍ، وهو الشخص الذي يدفع لتمرير مشاريعه أو الحصول على مناقصات أو خدمات بطريقة غير قانونية، وهذا يؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف النمو الاقتصادي، وإفشال جميع جهود التنمية الشاملة والمستدامة، وإسقاط هيبة الأنظمة والتشريعات، وطرد الثقة من بيئة الأعمال المحلية، والتوسع الهائل للفوارق بين مستويات دخل أفراد وطبقات المجتمع.
من الخطأ الاعتقاد بأن الفساد مرض عربي أو شرق أوسطي فقط، بل هو مرض عالمي لا يضرب الدول فقط، بل المنظمات والأجهزة أيضا، وخطورة الفساد ازدادت على العالم أجمع لأنه أصبح عابرًا للحدود بفعل تطوير التكنولوجيا وتحول العالم إلى قرية صغيرة، وقد تابعت مؤخرًا قصة «وثائق فنسن» التي كشفت تورط عدد من أكبر البنوك في العالم بدول مختلفة في قضايا فساد وغسيل أموال تفوق قيمتها ترليوني دولار، وذلك بعد أن سهَّلت لمجرمين غسيل أموالهم من خلال نقل تلك الأموال القذرة في جميع أنحاء المعمورة، وأوضحت الوثائق أن أرباح حروب عصابات المخدرات الدامية والثروات المنهوبة من الدول النامية والمدخرات التي أكد أصحابها لجمعها ثم تم السطو عليها بطريقة احتيالية، والمثير أن الوثائق المسربة تضع بريطانيا، المركز المالي العالمي، في قلب عمليات غسيل الأموال في العالم.
قبل ذلك، ومنذ العام 2015 تحديدًا وحتى الآن تهز الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» فضائح كبيرة جدًا، ويواجه أعضاء كبار فيه تهم فساد وتبييض أموال تصل إلى 150 مليون دولار منذ عام 1990، كما فتح القضاء السويسري في اليوم ذاته تحقيقا مستقلا بشأن منح روسيا وقطر استضافة مونديالي 2018 و2022، وتم إيقاف الأمين العام للفيفا، الفرنسي جيروم فالك، عن العمل بعد اتهامه بقضية إعادة بيع تذاكر في السوق السوداء، وأخيرًا مطالبة النيابة العامة السويسرية الحبس 28 شهرًا بحق القطري ناصر الخليفي، رئيس نادي باريس سان جرمان ومجموعة «بي إن» الإعلامية، وثلاث سنوات للأمين العام السابق للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) جيروم فالك في قضية فساد تتعلق بمنح حقوق البث التلفزيوني لنهائيات كأس العالم 2026 و2030 لكرة القدم.
كما يبدو أن الفساد في ظل جائحة كوفيد-19 يأخذ شكلاً مختلفًا، والبنك الدولي يحذر من أنه من الممكن أن تؤدي الحاجة للتحرك بسرعة إلى الإخلال بالإجراءات العادية المصممة لمكافحة أخطار الفساد، ويمكن لظروف تفشي الجائحة أن تجعل الرقابة التقليدية أكثر صعوبة.
يحاول أعداؤنا جاهدين السيطرة علينا ونهب ثرواتنا، وتعمل إيران على شراء الذمم والولاءات في بلداننا، وتلهث تركيا من أجل فرض نمط فكرها الإخواني في منطقتنا تمهيدا لإعادتنا لنير الاحتلال العثماني. لكن الطامعون بنا لن يتمكنوا من تحقيق مآربهم طالما أن أجسام أوطاننا صحيحة سليمة محصنة ضد الاختراق، ولدينا مناعة كافية ضد سوسة الفساد التي تحاول دائمًا وأبدًا أن تنخر أساسات بنائنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري والأخلاقي.