أتابع أخبار الحرب المشتعلة بين أرمينيا وأذربيجان، ولست في وارد تحليل أسبابها، لكن ما شد انتباهي هو اصطفاف جميع الناس في كلتا الدولتين حول قيادتهما وجيشهما، بل إن كثيرا من المواطنين تطوعوا للحرب والتضحية. وفكرت: هل من الممكن أن نشهد التفاف شعب دولة عربية من دولنا المتهالكة حول قيادته وجيشه في حال تعرضت هذه الدولة لعدوان خارجي؟ صراحةً أشك في ذلك، خاصة وأننا مختلفون على كل شيء: على الثوابت الوطنية والحقوق العامة والجيش والولاء..، تمامًا كما نحن مختلفون على جنس الملائكة.
لقد أصبح من الواضح أكثر من أي وقت مضى أن ما سمي زورًا وبهتانًا بـ«الربيع العربي» كان وبالاً علينا. زاد من فرقتنا وتشرذُمنا، وأتى على ما تبقى من دولنا، وأزاح أباطرة ودكتاتوريين عن كرسي الحكم دون توفير البديل المؤهل، ولم يخرج زعيم وطني من بين الجموع لديه استراتيجية وكاريزما ودهاء سياسي وفهم عميق لجميع مكوِّنات شعبه وقدرة فذة على مواجهة المؤامرات الخارجية، فتحولت الثورة إلى ثورات متناحرة فيما بينها، وانزلقت دول مثل ليبيا وسوريا والعراق واليمن إلى أتون حروب وفتن لم تبقِ ولم تذرْ، واهتزت أركان البلاد وجاع العباد.
هذا الربيع المشؤوم هو نتاج ربيع آخر حدث في خمسينات القرن الماضي، عندما قفز العسكر إلى السلطة في تلك الدول، وحكموها بالحديد والنار بعد أن باعوا شعوبها شعارات التحرر ودحر الإمبريالية والرجعية وتحرير الأرض المحتلة. وأضيف هنا إلى القائمة إيران، والتي لا أعرف لماذا يصر نظامها على إدخال شعبها الجنة عنوةً بعد أن جعل من أرضهم جحيما لا يطاق!.
أرادت شعوبنا الطيبة البسيطة المغلوب على أمرها الثورة على الظلم، وهذا حقها، فانتفضت رافضة العهر السياسي. نامت على حلم العدالة والمساواة، لكنها استيقظت على كابوس الإخوان المسلمين وداعش وغيرهم من الحركات المتطرفة المدعومة من دول خارجية مثل تركيا. والمفارقة هنا هي أنه حتى إيران تدعم الإخوان المسلمين، ولا يحتاج الأمر إلى ذكاء لمعرفة أنها تريد استخدامهم في تدمير دولهم لتسهل سيطرتها عليها.
إبان هذا التردي والبؤس، أصبحت هناك شرائح كثيرة من العرب في بلدان «الربيع العربي» تفضل وضع زمام أمورها في عهدة هذه الدولة الأجنبية أو تلك، أو حتى المجتمع الدولي، تماما كما حدث في لبنان عندما لجأ لبنانيون إلى الرئيس الفرنسي ماكرون ليخلصهم من فساد زعمائهم. لقد بتنا نخاف على أنفسنا من أنفسنا.
الأمم تبرع في تنشئة أطفالها على حب أوطانهم، وغرس المبادئ والقيم السامية في ذواتهم، وتحفيزهم على بذل أرواحهم من أجل حماية تراب وطنهم وحب كل ما عليه، وترتكز في ذلك على التاريخ، تنتقي منه ما هو جامع مشرف، وتخفي ما هو مفرق وضيع، ففي تاريخ جميع الأمم نقاط مضيئة وأخرى قاتمة، والتربويون مهمتهم إنارة قلوب الناشئة بالنقاط المضيئة، ونحن كعرب لدينا مرتكزات فكرية وثقافية ولدينا أخلاق سامية وخصال حميدة توارثناها جيلا بعد جيل يمكن إحياؤها وإبرازها.
لدينا الكثير من الشعراء أمثال نزار قباني ومحمود درويش وأبو القاسم الشابي الذين يبثون نار الغضب في نفوسنا لأجل الانقلاب على واقعنا المرير سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتحرير أرضنا واستعادة أمجادنا، ولدينا أيضا مطربين وطنيين ثوريين مثل السيدة فيروز وحتى أم كلثوم وعبد الحليم غنَّوا للنصر والتحرير، لكن مع الأسف تنتهي مفاعليهم جميعا بانتهاء القصيدة أو الأغنية، وسرعان ما تهدأ فورة غضبنا لأننا لا نملك سوى حناجرنا وما بأيدينا حيلة إلا الصراخ.
في الوقت ذاته ليس لدينا – كعرب – مفكّرون ومنظّرون قادرون على الوصول إلينا وإقناعنا، وأن يرسموا أمامنا بهدوء الخطوط العريضة لمستقبلنا، ففقدنا الطريق، وضعنا بين الماضي والمستقبل، فمن بيننا من يعتقد أن الإسلام هو الحل، ومن بيننا من يعتقد أن الديمقراطية على الطريقة الغربية هي الحل، أو الناصرية أو الاشتراكية أو الشيوعية أو حتى العودة إلى الجاهلية. فتعيش أجيالنا وتموت دون أن تتمكن من المساهمة في تطوير هذه الأمة، وإنما يفكر كل فرد في نفسه، وفي أفضل طريقة للنجاح الفردي وليس الجماعي، بل بات الكثيرون يفكرون فقط بالنجاة وليس النجاح بسبب تردي الأوضاع، النجاة من الموت والجوع والفقر.
لا يمكن أن نصبح جمعيًا مفكرين يملك كل واحد منا نظريته الخاصة لحل المشاكل التي نواجهها، بل نحتاج إلى منهج عام يلقي قبولاً من معظمنا ونلتف حوله، منهج نرجع إليه وننطلق منه سواء كنا سياسيين أو مهنيين أو رجال أعمال أو موظفين أو عاطلين أو طلاب أو آباء وأمهات، منهج يجمعنا، يتم بناؤه اعتمادًا على ما لدينا من قواسم مشتركة، ويزرع فينا شعور الأمان النابع من انتمائنا لهذه البقعة من الأرض، ويوحِّد مصيرنا.
حتى أسراب الطيور أو قطعان الذئاب تسير بمجموعات وتلتزم بالأساسيات بتعليمات القائد حتى تنجو جمعيها، وقرأت مرةً أن أفراخ الطيور تفقس وتكبر وتهاجر عائدة إلى أرض آبائها وأجدادها في رحلة تمتد لآلاف الكيلومترات وتستغرق أسابيع طويلة دون الحاجة لمن يرشدها في طريق العودة، والعلماء اكتشفوا أن هذه الفراخ تولد وفي داخلها ما يشبه نظام توجيه بالبوصلة ورثته عن والديها عن طريق الجينات، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن طريق النجاة هو العمل معًا والسير جنبًا إلى جنب في طريق خطه قبلنا آبائنا وأجدادنا.
أنظر إلى خارطة المنطقة، وأرى النيران ما تكاد تخمد في مكان حتى تشتعل في آخر، وأرى وسط ذلك واحة أمن واستقرار سياسي واقتصادي واجتماعي، هي شبه الجزيرة العربية، حماها الله تعالى من كل شر، وأرى حكامها برؤيتهم الثاقبة وهدوئهم وبعد نظرهم وقراءتهم السياسية العميقة ينجحون في تجنيب دولهم ويلات الفتن والحروب، ويرسمون مستقبلاً أفضل لشعوبهم، وفي السابق كان يقال «أينما تسير مصر تتبعها الأمة العربية»، أما الآن فأقول «نجاة الدول العربية في تعاونها وتكاملها مع دول الخليج العربي لإنقاذ هذه الأمة واستعادة مكانتها بين الأمم».