
كلٌ فسَّر اهتمام وزيارات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرًا إلى لبنان على هواه، فمنهم من قال إنه زارنا حُبًّا بلبنان ورغبة صادقة من فرنسا الأم بدعم لبنان، ومنهم من قال إن الزيارة كانت لتحقيق مصالح شخصية ورفع مستوى شعبيته وتحقيق مكاسب انتخابية، ومنهم من وضعها في خانة مصالح اقتصادية أو سياسية أو استعمارية أو دينية أو حتى طائفية.
قال لي صديق في لبنان أعرفه منذ الصغر، إنه سعيد لأنه يعتقد أن فرنسا ستستعمر لبنان مرة أخرى، وتنهض به من تحت الركام، وتنفض عنه غبار الجهل والطائفية المقيتة، وتطهره من الفساد بعد أن تعيد انتاج نظامه السياسي بعيدا عن المحاصصة، وتعيد إليه ألقه الفكري والثقافي والحضاري.
عندما أدركت أن هذا الصديق يتكلم بمنتهى القناعة والجدية شعرت بحزن وأسى عميق في نفسي، قلت له لقد وصل بنا اليأس والبؤس إلى الحضيض، وما أفشلنا من شعب بات يطلب من دولة أخرى أن تعيد استعماره، فما معنى إذاً الاستقلال الوطني الذي نحتفل بذكراه في كل عام، هل كنا نكذب على أنفسنا طوال تلك السنين؟ هل بالفعل فشلنا في بناء الدولة الوطنية، دولة القانون والمؤسسات؟
قلت له إن عليه أن يدرك أن فرنسا لن تستعمرنا مرة أخرى حتى لو طلبنا منها ذلك، وماكرون سيخيب ظنك يا عزيزي ويخذلك حتى لو استنجدت به، فالاستعمار بشكله التقليدي ولَّى إلى غير رجعة، وله الآن أشكالا أخرى أكثر حداثة، حيث بات استعمارًا سياسيًا فكريًا ثقافيًا اقتصاديًا، وبلدنا وفقًا لهذا المفهوم للاستعمار لم يتحرر على الإطلاق.
هل اشتمت فرنسا رائحة الغاز اللبناني فعادت إلينا من جديد؟ هل عدم التوافق الفرنسي الأمريكي حول لبنان مرده رغبة كل بلد بحصة أكبر في ثروات لبنان؟ بصراحة لا اعتقد أننا نملك أكثر من التحليل والنقاش، لأنهم أقوياء وإذا أرادوا شيئًا فعلوه شئنًا أم أبينا، بل ربما فعلوه بأيدنا نحن دون أن يضطروا حتى لاستخدام أيديهم.
إن أرادتنا وشعورنا بأننا على حق كأصحاب لهذه الأرض ليس له أي قيمة تذكر لدى مراكز القوى العالمية، لا في واشنطن ولا في لندن أو باريس أو حتى بكين أو أنقرة أو طهران، فجميع هذه الدول تنظر إلى منطقتنا مع الأسف على أنها مشاع أو مزرعة لا سور لها ولا بواب، من يصل إليها أولاً ينهب منها أكثر.
إنهم يتقاسمون الكعكة فيما بينهم ويتركون لنا فتات الفتات، تماما كما قال الكاتب السوري الساخر محمد الماغوط «كل طبخة سياسية في المنطقة أمريكا تعدها وروسيا توقد تحتها وأوروبا تبردها وإسرائيل تأكلها والعرب يغسلون الصحون».
لكن بالمقابل كم كنت سعيدا بسماع خبر موافقة الولايات المتحدة الأمريكية على بيع طائرات F35 المتطورة جدًا للإمارات، فالجيش الإماراتي وشقيقه الجيش السعودي والبحريني والمصري هم سند هذه الأمة، ومرتكز الحفاظ على أمنها وما تبقى من كرامتها، والضامن لإسماع صوتها والدفاع عن حقوقها في عالم لا يحترم إلا الأقوياء.
كنا نعتقد أن لبنان لن ينجرف إلى الضياع والتفكك الذي انجرفت إليه دول مثل ليبيا وسوريا والعراق، وأن الإنسان اللبناني المثقف الواعي المتحضر قادر على النهوض ببلده مهما اشتدت المحن، لكننا صحينا على واقع سيطرة الميليشيات الطائفية المتطرفة على هذا البلد، وإخراسها لأصوات الوطنيين العقلاء بالتهديد وحتى السلاح.
لماذا يتميز الإنسان اللبناني خارج لبنان ويثبت كفاءة وجدارة ومقدرة على النجاح في شتى مجالات الأعمال والعلوم والوظائف وغيرها فيما يفشل هذا الإنسان نفسه في لبنان ويحتار كيف يتدبر ربطة الخبز لأبنائه؟ السبب هو البيئة الطاردة للكفاءات والعقول في لبنان، والسياسيون الذين لا هم لهم سوى إبقاء الوضع على ما هو عليه بما يسمح لهم بتكريس سلطاتهم أكثر ومراكمة ثروات أكبر.
حتى محاولات إنقاذ لبنان من قبل أبنائه الذين خرجوا إلى الشوارع مطالبين بالقضاء على الفساد الذي أزكمت رائحته الأنوف تم القضاء عليها وإفراغها من محتواها، بل ولجأت بعض القوى السياسية الرجعية إلى إخراج أتباعها في مظاهرات مضادة، لا هم لها سوى تقديس زعيمها السياسي وعدم السماح بالمساس بهيبته، ثم يأتي أحدهم ويقول لك: لبنان ذاهب إلى الجحيم! نعم يا سيدي، لبنان بقيادتكم ذاهب بلا شك إلى الجحيم.
لقد فشل مصطفى أديب في تشكيل حكومة تكنوقراط وأعلن اعتذاره عن تشكيل الحكومة دون أن يذكر الأسباب صراحة، لكن الرئيس الفرنسي ماكرون الذي كان يتابع مجريات تشكيل الحكومة عن كثب سمى الأشياء بمسمياتها، وقال إن حزب الله وحركة أمل هما المسؤولان عن تعطيل تشكيل الحكومة، وهذا واضح للجميع لأن أولويات هذه الأطراف ضيقة بعيدة عن أولويات اللبنانيين في بناء وطن يتسع للجميع ومنفتح على العالم.
كل ما مرَّ علينا من أحداث بعد الاستقلال يؤكد أننا لا يمكننا إصلاح أنفسنا بأنفسنا، لا يمكن أبدًا أن نلتقي ونتفاهم على مصلحة لبنان الوطن الحر السيد، وبرهنا أن حالات الاستقرار في هذه البلد ليست إلا استراحة قصيرة للمتحاربين، وأن الطائفة أهم من الوطن، والولاء للزعيم أكبر من الولاء للبنان، وكل هذا يؤكد أننا لا زلنا ذلك الطفل الذي لم ينضج بعد ويجب أن تأخذ أمه بيده لتساعده على عبور الطريق.
ولنا في دعم المملكة العربية السعودية للبنان مثال على ذلك، عندما احضرت جميع الفرقاء إلى الطائف وصهرتهم في بوتقة لبنان الكبير، وشهدنا بعدها أعوامًا من عودة الاستقرار والازدهار، هذه الأعوام التي انتهت باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والعودة بلبنان إلى دوامة النزاعات التي لا تنتهي أبدًا.
كم أحزنني رؤية لبنانيين يركبون قوارب الموت عبر المتوسط هاربين من جحيم لبنان كمهاجرين غير شرعيين إلى قبرص أو تكريت أو دول أوروبا، بعد أن فقدوا الأمل تمامًا في إمكانية إصلاح الأوضاع في بلدهم، وأنا في الواقع لا ألومهم، بل أضم صوتي إلى أصوات اللبنانيين الذين نزلوا إلى الشارع ثائرين مطالبين بالتغيير، هذا التغيير الذي ربما لن نراه على المدى المتوسط أو القريب، مع كل أسف.