لا بد من التأكيد بداية على الأهمية المطلقة لمواصلة الالتزام بالإجراءات الاحترازية من فايروس كورونا مهما حصل، إن لم نكن نخاف على صحتنا فمن أجل صحة من حولنا، واحترامًا وتقديرًا للجهود التي يبذلها الفريق الوطني للتصدي للجائحة بقيادة سمو ولي العهد، واعترافًا بتضحيات الكوادر الطبية والصحية وكل العاملين في الصفوف الأمامية لحماية مملكتنا الغالية من هذه المحنة الصحية غير المسبوقة.
والحمد لله أن قيادتنا في البحرين وفَّرت لنا كثير من العوامل التي تساعدنا على تحمل التعبات السلبية للجائحة، فلقد صمد القطاع الصحي في وجهها، ولم نشهد انقطاعًا في الخدمات أو غياب المواد الأساسية من الأسواق، كما أن الجميع حصل على دعم مادي بشكل أو بآخر، وهذا ما أسهم في تعزيز صمود المجتمع البحريني انهارت مجتمعات أخرى حتى في مدن متقدمة مثل روما ونيويورك التي شهدت فيما شهدته مقابر جماعية لضحايا كورونا، نعم يا سادة، مقابر جماعية في نيويورك، من كان يتصور ذلك؟ يا الله ماذا فعلت بنا يا كورونا؟
لكن رغم ذلك، اسمحوا لي أن أبوح ببعض ما أعاينه وأعانيه من إحباط ومشاعر سلبية تفاقمت نتيجة تأخر انقشاع غيوم جائحة كنا نعتقد في البداية أنها ستستمر أسبوعين أو شهر أو حتى شهرين، لا أن تلازمنا كل هذا الوقت دون أن يكون هناك ضوء حقيقي في نهاية النفق.
لقد سرقت الجائحة حتى الآن نحو تسعة أشهر من عمرنا، وأجبرتنا على تغيير نمط حياتنا، وحرمتنا حتى من مصافحة بعضنا البعض، وأصبحت هذا الفيروس اللعين هاجسنا وكابوسنا الدائم، نعتقد أنه يتربص بنا في كل مكان، على مقابض أبوابنا وسيارتنا وأسطح مكتبنا وكل ما نلمسه بأيدينا. أصبحنا وكأننا مهدون بالاغتيال في كل مرة نخرج فيها من منزلنا صباحا، بل ربما نعتقد أن الفايروس تسلل إلى داخل بيوتنا وغرف نومنا.
حرمنا الفيروس من تقبيل أولادنا واللعب مع أحفادنا، حرمنا من لقاءات الغداء أو العشاء، افتقدنا ضجيج الأسواق والمجمعات التجارية والملاعب والأندية الرياضية، بات التهنئة والتعزية عبر الواتساب فقط، وأصاب هذا الفيروس الاقتصاد في مقتل، وكثير من الشركات أفلست وخسر الناس وظائفهم، وانهارت قطاعات بالكامل مثل قطاع مكاتب السفر والنقل والفنادق والمطاعم والتعليم والتدريب والرياضة، وحرم الفيروس أطفالنا من ممارسة طفولتهم، وافتقدنا ضجيج ضحكاتهم مع أقرانهم في منازلنا أو الحدائق أو الملاهي أو باحات المدارس.
البعض ابتكر حلولاً لتخفيف أثر الجائحة مثل العزف من الشرفات أو تحويل بيوتهم إلى نادي رياضي أو تعلم مهارة جديدة كالطبخ..، لكن تلك الحلول لم تعد تجدي نفعًا بعد أن طال أمد الجائحة، بل بدأت الناس تتأفف من الإجراءات الاحترازية وشهدنا مظاهرات في ألمانيا وأسبانيا والولايات المتحدة نفسها احتجاجًا على مواصلة فرض الإجراءات الاحترازية، وبعض الناس انتبهت لنفسها وأصبحت تمارس الرياضة بوتيرة أعلى، لكن أناس آخرين جلسوا في منازلهم يأكلون وينامون ويشاهدون نتفلكس، فأصابهم الكسل والسمنة والممل وربما التوحد.
هل بتنا أمام خيارين أحلاهما مر: الموت بسبب الفايروس أو الموت بسبب العزلة؟ إن أكبر عقوبة زاجرة للإنسان هي السجن، الذي يعني فيما يعنيه تقيد الحرية والعزلة، أحيانًا يكون حكم الإعدام أهون من حكم السجن المؤبد الذي يعني الموت كل يوم.
الإنسان حيوان اجتماعي، وهو المخلوق الوحيد الذي كان حريصا طوال الوقت على تطوير أساليب تواصل واتصال مع أفراد جماعته، فإنسان الكهف أوقد النار حتى يرسل رسائل إلى أقرانه في أمكان أخرى، ثم اخترع البوق، وكان أعظم اختراع عرفته البشرية هو الكتابة التي تمثل أصدق تعبير على أن الرغبة في التواصل موجودة في جينات الإنسان، الكتابة كانت أداة الإنسان للتواصل ليس مع معاصيره من البشر فقط، بل مع البشر الذين كانوا قبله والذين سيأتون بعده، بعد ذلك بقرون طويلة اخترع الإنسان الهاتف، والتلفاز، والانترنت، وصولا إلى ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، هذا فضلاً عن تطور أساليب النقل من سيارات وقطارات وطائرات، وكل ذلك جعل العالم بالفعل قرية صغيرة.
في خضم كل ذلك، وفي أوج الرغبة لمزيد من قنوات الاتصال والتواصل بيننا كبشر، ظهر فيروس كورونا، ليعيد البشرية إلى حياة الكهوف، حيث يعتزل الإنسان عالمه، ويلجأ إلى مأواه خائفًا ليس من الوحوش المفترسة بل هذه المرة من فيروس لا يرى بالعين المجردة.
ربما يشاطرني الكثيرون مشاعري هذه، وربما يعارضني الكثيرون، لا أدري، لكنني بصراحة أشعر أن رصيد الصبر والإيجابية عندي بدأ ينفذ. أنا أجد سعادتي في التواصل مع الناس حتى لو كان هذا التواصل متعبًا أو مشحونًا، أحب التجمعات، أشعر بسعادة غامرة عندما أشاهد فيلمًا في السينما مع الناس لا أشعر بها لو أنني شاهدت ذات الفيلم في بيتي على تلفاز حتى لو كان 300 بوصة، وأشعر أن وجبة الطعام التي أتناولها في مطعم وسط الناس أطيب وألذ من نفس الوجبة لو تناولتها في مكتبي.
ثم أنه ليس صحيحا أن كورونا كان فرصة لجمع العائلة وتعزيز الروابط الأسرية، بل إن ذلك أدى إلى تفاقم المشاكل الأسرية، فلا زوجتك تريد أن تراك أمامها 24 ساعة في اليوم، ولا أطفالك، ولا حتى والدتك أو والدك، بل يجب أن تتركهم فترة حتى تشتاق إليهم، هذه سنة الحياة بشكل عام.
أنا أحذر من مطالبات البعض بجعل العمل عن بعد أو التعليم عن بعد منهجًا دائمًا في البحرين حتى بعد جائحة كورونا تحت أي ذريعة كانت مثل توفير نفقات التشغيل والتنقل أو تخفيف الازدحام أو زيادة الإنتاجية، لأن العمل أو المال ليس هدفنا النهائي، بل السعادة، وسعادتنا بتواصلنا.
لا يا سادة، لن نستطيع أن نصبح روبوتات متفرقة يجمعنا الانترنت، نحن بشر، وإنسانيتنا لا تسمح لنا بذلك، والتواصل جوهر وجودنا، لكننا في الوقت ذاته نتمسك بتوصية «اعقل وتوكل»، ونستطيع تقبل واقعنا الجديد والتعايش معه، نستطيع تطبيق الإجراءات الاحترازية، ونستطيع «التقارب عن بعد» ريثما نتمكن من العودة إلى حياتنا الطبيعية مرة أخرى.