أذكر عندما كنت تلميذا في الثانوية العامة في ستينيات القرن الماضي، قائدا لفرقة الكشافة في مدرستي، وقفت لأخطب في فرقة كشافة أخرى، كان الخطاب حول الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والحماس على أشده، كانت الأمة العربية والإسلامية تغلي، وعبدالناصر يلهب عواطف الجماهير بخطبه العصماء، وبدا الأمر بالنسبة لنا بمثابة نزهة صيد لنلقي الصهاينة في البحر بعد أن تجرؤوا ودنسوا شرف الأمة وخدشوا كبرياءها.
ألقيت خطابا حماسيا عاصفا، شحذت فيه الهمم وارتفع الدم للرؤوس وازداد إفراز الأدرينالين إلى أعلى حد، وفي ذروة الهتاف والحماس قلت بصدق «إذا نفذت القنابل التي سنقصف بها إسرائيل، هذا جسدي، خذوه واقذفوا به الصهاينة لينفجر فيهم قهرا وغضبا».
خرجنا حينها في مظاهرات كثيرة، كنا نطالب بمسح عار نكبة 1948 لكن حدثت نكسة 1967، كنت في الولايات أترقب – كما يترقب ملايين العرب غيري – نصرا حاسما خاطفا باهرا لمصر، وكنت أقول لنفسي ولمن حولي إن مشاهد تدمير المطارات الطائرات العسكرية المصرية التي يبثها التلفاز مفبركة، أو ربما عبدالناصر يستجر اليهود في خدعة ليقضي عليهم، لكن سرعان ما تبينت الحقيقة المرة، وهي أن إسرائيل سيطرت على أراض في أربع دول عربية تفوق مساحتها بأربعة أضعاف.
المناسبة الوحيدة التي لم تكن نكبة ولا نكسة في تاريخنا هي حرب أكتوبر 1973، كانت سجالا بين الجيوش، وانتهت رسميا بعد اندلاعها بخمسة أعوام بمعاهدة كامب ديفيد للسلام، وخرجت مصر من معادلة النزاع أو الصراع أو السجال مع «العدو الإسرائيلي أو الصهيوني»، وتبين لاحقا أن السادات كان على حق، ودخل العرب مطلع التسعينات في محادثات سلام مع الإسرائيليين في مدريد وغيرها، أفضت إلى سلام مع الأردن، وتفاهمات مع فلسطين ياسر عرفات.
ظهرت حركات مقاومة تحت مسميات المقاومة، كحماس والجهاد الإسلامي، وحزب الله اللبناني، الذي جلب الخراب والدمار إلى لبنان بذريعة تحرير القدس، وأطلق على حربه مع إسرائيل في العام 2006 اسم «النصر الإلهي» رغم أنه انكسر ورجع 30 كلم عن الحدود وتسبب بدمار نصف لبنان!.
لنكن واقعيين.. إن الدولة العربية الوحيدة التي تستطيع مجابهة إسرائيل هي مصر، لكنها اختارت السلام والتنمية، وقد استفادت كثيرا من السلام على مدى العقود الماضية، رغم أن السادات أو مبارك أو كان بإمكانهما تحويل مصر إلى كوريا شمالية أو فيتنام أو إيران، والسيطرة على الحكم وعقول الناس عبر استخدام المصطلحات الكبيرة مثل الإمبريالية والشيطان الأكبر، واعتقال وقتل كل من يقول أو يعتقد خلاف ذلك.
لماذا أسرد كل تلك الوقائع؟ لأن التاريخ مهم في فهم الواقع وقراءة المستقبل، ولأبني عليه تأييدي لمملكة البحرين بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في خطوة حكيمة شجاعة، ولا عزاء للذين لا زالوا يعيشون في أحلام وأوهام الماضي. آن الأوان لوضع حد لحالة اللاحرب واللاسلم السائدة بين العرب والإسرائيل منذ أكثر من أربعين عاما، وجرى هدر الكثير من الموارد وضاعت علينا عقودا من التنمية بسبب هذا النزاع. لقد جربنا العداء والنزاع ولم نحصل على أية منافع، فلماذا لا نمنح أنفسنا فرصة تجريب السلام؟
تعبنا من الكلام والوعود، من يريد تحرير فلسطين والقدس فعليه أن يبرهن عن صدقه بالأفعال لا بالأقوال، والفرق شاسع بين دول الوعود ودول الفعل، والبحرين والإمارات دول أفعال، وأنا متفاءل بمستقبل أكثر استقرارا وازدهارا ليس لنا فقط، بل للجميع بما فيهم الفلسطينيين الذين يجب على قياداتهم وأصحاب الرؤوس الحامية فيهم تقبل الواقع والوقائع كما هي، لا كما يتمنون.
لا أسمح لأحد بأن يزايد علي في حب فلسطين وقدسية قضيتها وحق الفلسطينيين بالعيش بسلام وكرامة، فأنا لا زلت ذلك الشاب الصغير في الكشافة المليء بالحماس والعاطفة تجاه القضية الفلسطينية، ويجري في دمي دماء فلسطينية ورثتها عن جدتي لأمي سليلة عائلة الحسيني الفلسطينية العريقة، والتي كانت تتمنى أن تموت وتدفن في القدس إلى جوار عائلتها وأجدادها، لكني شخص عملي أرى الأمور كما هي على أرض الواقع لا كما نريد ونتمنى.
لدي مخاوف من التطبيع مع إسرائيل، ومن أطماعها في منطقتنا العربية، لكنها في الواقع ربما تكون أقل من أطماع إيران وتركيا، فإسرائيل التي لا يتجاوز عدد سكانها عشرة ملايين نسمة كثير منهم عرب لن تتمكن – من الناحية الديمغرافية على الأقل – من احتلالنا، لكن إيران ستفعل، وكذلك تركيا، وهاتين الدولتين لا تخفيان نواياهما الخبيثة تجاهنا، بل إنهما ينفذان مشروعهما بالفعل على الأرض في سوريا واليمن وغيرها.
لدى إسرائيل قوة عسكرية خشنة من غير المنطقي والمتوقع أن تستخدمها ضدنا، لكن لديها بالمقابل قوة سياسية ودبلوماسية واقتصادية وفكرية ناعمة جدا وقوية جدا، وهذه هي مكمن الخطورة والفرص في وقت واحد، وعلينا أن نكون حذرين جدا في المرحلة القادمة، لتكون علاقة التعاون مع إسرائيل متكافئة، نفيد ونستفيد.
هل العداء بيننا وإسرائيل ديني بالفعل؟ هل هو عداء الإسلام لليهود والنصارى؟ لكن ما أراه على أرض الواقع هو أن أخوتنا في الدين، الإيرانيين والأتراك هم الذين يقتلوننا ويستحلون أرضنا. وأنا أعرف الكثير من الأتراك والإيرانيين، وألمس من خلالهم أن الشعب الإيراني والشعب التركي شعوب إسلامية تؤمن بما نؤمن به وتحبنا كما نحبهم، ولكنهم يتعرضون لعملية غسيل أدمغة وترهيب وإجبار على معاداتنا.
لقد أصبحت اليوم مجبرا على إعادة حساباتي، بعد كل الضرر الذي لحق بي وبعائلتي وأهلي في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وأقول لنفسي لنعطي فرصة لعدو قد يصبح صديقا، وقد يؤازرني ويوحد مصالحه مع مصالحي، أساعده ويساعدني، وإن خاب ظني به أعيد مرة أخرى حساباتي، فصديق اليوم قد يصبح عدو الغد والعكس صحيح، وإن لم أجرب لن أعرف.
هل نريد مقارعة إسرائيل؟ أمامنا الآن ساحة جديدة، هي ساحة العلم والتجارة والابتكار والتقنيات الحديثة والذكاء الصناعي والصناعات الدوائية ومراكز الأبحاث العلمية والجامعات وغيرها، لنبرهن على أننا أمة جديرة بالاحترام والتعامل الند بالند. كفانا كلاما، وهيا إلى العمل.
* رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسفن القابضة