مطلع شهر سبتمبر الجاري عدنا كأصحاب أعمال من إجازة طويلة منحتنا إياها الحكومة عندما قررت مشكورة مع بداية جائحة «كوفيد-19» في فبراير الماضي تحمُّل الكثير من الأعباء المالية لأعمالنا نيابةً عنا، بما في ذلك تأجيل أقسام البنوك ودفع رواتب موظفينا البحرينيين ورسوم الكهرباء والماء وسوق العمل وغيرها.
الآن انتهى شهر العسل ودقت ساعة الحقيقة بعد أن عادت جميع الالتزامات المالية على أصحاب الأعمال، فعاد البنك ليطالب بأقساطه، والموظفين البحرينيين يطالبون برواتبهم، إضافة إلى النفقات الدورية من إيجارات وماء وكهرباء ورسوم وغيرها.
كان من المأمول في البداية ألا تطول أزمة جائحة «كوفيد-19»، شهر شهرين ثلاثة ثم تنتهي، لكن الأزمة طالت في البحرين والمنطقة والعالم كما يعرف الجميع، ورغم أن الغيوم التي تلبدت في السماء منذ فبراير الماضي بدأت الآن تنقشع رويدًا رويدا، إلا أن الأزمة وتداعياتها لا زالت تضغط بشكل كبير جدًا على جوانب كبيرة من الأنشطة الاقتصادية بشكل عام، بل إن بعض التقديرات تشير إلى أن قطاعات مثل السياحة والسفر والضيافة قد لا تتعافى بشكل كامل قبل فترة ثلاث إلى خمس سنوات.
لقد بتنا مرة أخرى وجها لوجه أمام كامل مسؤولياتنا، وعلينا تحمل جميع الالتزامات المالية لأعمالنا، وأعتقد أن كل التحديات التي مررنا بها خلال الأشهر الستة الماضية لا تقارن بما هو قادم خلال الأشهر القادمة، ومن كان يتلكأ في اتخاذ قرارات بشأن إنقاذ مشروعه منتظرًا المزيد من الدعم الحكومي أو حدوث معجزة ما، عليه الآن أن يصحو ويواجه الواقع بشجاعة.
لقد ساعدتنا الحكومة على التقاط أنفاسنا، لكن علينا ألا نتوقع من الحكومة أن تستمر بدعمنا إلى الأبد، وقد شهدنا كيف اضطرت مؤخرًا إلى رفع سقف الدين العام من 13 إلى 15 مليار دينار لتمويل الإنفاق العام على الخدمات الأساسية للمواطنين من صحة وتعليم وبنية تحتية وغيرها، ومخطئ من يعتقد أن الحكومة في طرف والتاجر في الطرف المقابل، فالجميع في مركب واحد، ومسؤولية الوصول إلى بر الأمان مشتركة.
يجب أن نكون واقعيين ومتفائلين في ذات الوقت، وأن نتحمل مسؤولياتنا عبر الاستثمار الأمثل لمواردنا التي باتت محدودة، فنعود إلى البنك ونتفاوض معه على جدولة القروض، ولصاحب العقار لنتفق معه على آلية عادلة في تسديد الإيجار، ولموظفينا البحرينيين لنخبرهم أن الحكومة لم تعد تدفع رواتبهم وأننا لسنا بصدد الاستغناء عنهم شرط زيادة انتاجيتهم وتحملهم معنا مسؤولية إيجاد مصادر أخرى للدخل.. .
المهم هنا ألا يسود الكذب والتسويف قطاع الأعمال، فليس عيبًا أن نواجه الواقع الصعب لكن العيب أن نكذب على أنفسنا وعلى الناس من حولنا من موردين وزبائن وموظفين وغيرهم، علينا أن نصارح أصحاب الحقوق المالية علينا بوضعنا المالي، وأن نصل معهم إلى حلول عادلة مرضية، لا أن نورط موظفينا والناس من حولنا ثم نهضم حقوقهم من دون وجه حق.
من يعرفني شخصيا يعرف أنني لم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب، فقد اضطررت للعمل كمندوب توصيل خضروات عندما كنت في السادسة عشرة من عمري كي أوفر نفقات مدرستي، وعلى مدى نحو ستين عامًا مضت شهدت الكثير الكثير من المصاعب، خاصة في البدايات حيث تعرضت للإفلاس وخسارة كل شيء مرات عديدة، لكني عدت ونهضت من جديد، ونجحت في بناء أعمال مثمرة تمتد حاليًا على كثير من الدول.
من واقع تجربتي تلك أقول إن سر نجاح الأعمال والمشروعات هي شخص صاحب العمل ذاته: امتلاكه لرؤية واضحة، وشغفٌ يجعله ينهض صباح كل يوم ليذهب إلى عمله وكأنه ذاهب لموعد غرامي، وإخلاصه وتفانيه وانضباطه، وقدرته على تحمل المسؤولية، والابتكار، ومقاومة الصدمات، وأهم نقطة هي صدقه مع الناس من حوله، هذا الصدق سيتحول مع الوقت إلى سمعة طيبة تجعل الناس يثقون به، ويشاركونه أعمالهم ومشاريعهم وأفكارهم وولائهم.
هذا، وقت الابتكار في الأعمال، وأنا وقد تجاوزت السبعين من عمري إلا أنني لا زلت مهتمًا بتقنيات مثل الذكاء الصناعي والطائرات بدون طيار وغيرها، وقد أدخلتها في أعمالي بالفعل في دبي، وأتابع عن كثب ما يقوم به رجال مثل بيل غيتس وإليون ماسك من أبحاث واختراعات في مجال الطاقة النظيفة والصحة والفضاء، لأني أدرك تمامًا أن شكل الاقتصاد وعالم المال والأعمال يتغير، ومن يفكر بتلبية متطلبات السوق الحالية سيجد نفسه في منافسة شديدة مع تجار تقليديين مثله، إنما التاجر الشاطر هو من يخلق سوقًا لخدماته ومنتجاته المبتكرة.
العِلم وريادة الأعمال سيُشكِّلان الفارق خلال المرحلة القادمة، وعلى الشركات إعادة تصميم منتجاتها وخدماتها وتسخير خبراتها لتجاوز تداعيات جائحة «كوفيد-19»، وأن تتحلى بالمرونة وسرعة الاستجابة لمتطلبات السوق الحالية والمستقبلية، وتستثمر مواردها على النحو الأمثل، وعلى الشركات الكبيرة التحلي بالكثير من المرونة والتعاون مع الشركات الناشئة ودعهما، خاصة في سوق صغير مثل السوق البحريني، حيث أن بوادر أي ركود أو انتعاش اقتصادي يلمسها الجميع وبسرعة.
طالما حلمنا بتحويل البحرين إلى سنغافورة، ربما لا يجب علينا التخلي عن هذا الحلم، لكن الوصول إليه يحتاج إلى خارطة طريق، وأنا إذ أؤكد على دور كل فرد في الارتقاء بنفسه ومشروعه، إلا أنه من الأفضل طبعًا أن يكون ذلك في إطار خطة إنقاذ اقتصادي على الصعيد الوطني ككل، ربما لا تشمل تقديم حزم دعم ومساعدات مالية، وإنما تشمل تحديد القطاعات الاقتصادية ذات المستقبل الواعد ودعمها، مثل قطاع تقنية المعلومات وقطاع الخدمات المالية، والتوجه لقطاعات مغمورة ومساعدتها مثل قطاع الأسر المنتجة، وتدريب عشرة آلاف شاب بحريني على البرمجة وتصدير خدماتهم إلى العالم، وغير ذلك من الأفكار.
هناك مسؤولية كبيرة اليوم على الجهات ذات الخبرة والدراية، مثل مجلس التنمية الاقتصادية وغرفة التجارة والجامعات ومراكز الأبحاث، والمهم أن تكون خطة الإنقاذ الاقتصادي تلك شاملة ولديها آليات تنفيذية وأهداف واضحة قابلة للقياس وفق جدول زمني معلن، وإلا سنبقى ندور في الدائرة المفرغة ذاتها.
الأيام القادمة صعبة بلا شك، ومن يخرج من السوق الآن سيصبح من الصعب عليه العودة إليه مرة أخرى، والأزمات تميت الضعيف لكنها تجعل القوي أكثر صلابة، القوي الذي ينهي قراءة مقالي هذا وقد شعر أنه أصبح أكثر تفاؤلاً وحماسًا وقدرة على التجريب والخلق والابتكار والبقاء، لأن البقاء دائمًا للأقوى.