العــدالــــة الـمـــكـبَّــلـــة

إذًا ليست إسرائيل من اغتالت رفيق الحريري، ولم تكن هناك طائرة إسرائيلية مُسيَّرة تحوم فوق موكبه لحظة اغتياله كما قال زعيم ميليشيا حزب الله حسن نصر الله، وإنما من نفذ عملية الاغتيال عنصر في الحزب هو سليم عياش، وعلى حزب الله الآن تسليمه للعدالة لينال جزاءه، إلا إذا كان يجهزه لعمليات اغتيال أخرى أو يخشى من فضح أدوار أخرى لحزب الله في عمليات اغتيال سابقة، أو أنه لا يريد زعزعة ثقة زملاء عياش في فرق الاغتيال.

أوساط حزب الله ومناصروه فرحوا بحكم المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري، لأن المحكمة لم تتمكن من إثبات تورط قادة الحزب أو ضباط مخابرات النظام السوري بالاغتيال، لكن من هو سليم عياش حتى يقوم باغتيال الحريري، هل هناك علاقات تجارية أو خلافات شخصية بينهما؟ هل قام بذلك لدوافع جنائية مثل السرقة أو الانتقام مثلاً؟ أم هو قاتل مأجور ليس إلا؟.

ماذا لو اغتيل أحد قادة حزب الله أو زعيم الحزب ذاته ثم أثبتت محكمة ما أن المدان في الاغتيال سُني وأن تيار المستقبل مثلاً يتستر عليه ويرفض تسليمه؟ هل سيتعامل الحزب بطريقة حضارية ويلجأ للقانون كما فعل شركاؤه في الوطن؟ هل ينسى اللبنانيون حادثة «القمصان السود» عندما قام حزب الله في السابع من مايو 2008 بنشر عناصره بالسلاح علنًا، واقتحام ميلشياته العاصمة بيروت ومدينة صيدا وغيرهما عسكريًا، لا لشيء سوى لفرض إرادته على اللبنانيين جميع اللبنانيين بقوة السلاح الذي طالما قال إنه «سيبقى موجهًا فقط نحو إسرائيل!».

المتهمون الأربعة في قضية اغتيال الحريري من عناصر حزب الله لم يتم احتجازهم مطلقا رغم صدور مذكرات توقيف دولية بحقهم، وتعهد حزب الله بعدم تسليم أي مشتبه بهم، ورغم أن المحكمة لم تدن حزب الله أو النظام السوري في حكمها، إلا أن هناك مثل لبناني يقول «الشمس طالعة والناس آشعة»، ولا يمكن تغطية الشمس بغربال.

ليس على حزب الله أن يأخذه الغرور والاعتداد بنفسه ويرفض تسليم المجرمين، بل إن تسليم عياش في مصلحة الحزب نفسه، فحزب الله الآن هو الطرف الأقوى في لبنان، ولكن، في مراحل سابقة، كان المسيحيون هم الأقوى أو المسلمون أو الفلسطينيون، ولا أحد يعلم كيف ستنقلب موازين القوى في المستقبل، لذلك فإن تسليم حزب الله للمجرم عياش يحمي أبناء الحزب مستقبلاً من الانتقام ويعتبر دليلاً على حرص الحزب على إنهاء نهج «الإفلات من العقاب» والانتقام، الذي طالما ساد في لبنان.

لقد كان رفيق الحريري رجل دولة وطني محبًا لعروبته ودينه، واستطاع أن يبهر العالم وليس لبنان والوطن العربي فحسب، ويحظى باحترام الكثير من الزعماء وتفهمهم ومؤازرتهم ومساعدتهم من أجل النهوض بلبنان، ومن قتل رفيق الحريري قتل صعود دولة وطموح شعب.

هذه حقيقة دامغة يجب أن يدركها حزب الله، وأن يعي أن لبنان بعد الحريري أضعف بكثير من لبنان قبل الاغتيال، وأنه كحزب قوي بقوة لبنان، وقيمته في أن يكون لبنان ناجحًا وعامرًا، أما اليوم فالجميع يرى كيف دمر حزب الله نفسه وقاعدته الشعبية وحاضنته التي امتدت في وقت من الأوقات وشملت الكثير من الدول العربية والإسلامية، عندما ظننا مخطئين أن هدف الحزب ومن خلفه إيران هو تحرير القدس.

الحريري كان يمثل الزعيم المسلم الليبرالي المعتدل، يمكن مقارنته ربما بمهاتير محمد الذي صنع مجد ماليزيا الحديثة، كان لديه رؤية عروبية قومية للبنان، لكن يبدو أن هناك من يصر على قتل أي مشروع تنويري معتدل في المنطقة، وأن تخلو الساحة لعصابات التشدد الداعشية، حتى يقال: هذا هو الإسلام.

القوة والبقاء للأذكى وصاحب الفكر البرغماتي، وليس لأصحاب العقيدة العمياء المضللة، ومخطئٌ من يعتقد أن لدى إيران أو حزب الله مشروع بناء دولة، والإيرانيون تحت حكم الملالي خير مثال على ذلك، ولم تتدهور أوضاعنا وأوضاعهم إلا بعد الثورة الإسلامية المزعومة في العام 1979، وبدأ تمدد أذرع إيران في المنطقة، والتي كان أحد مظاهرها أو نتائجها اغتيال الحريري.

الحريري لم يسقط وحده في تلك الجريمة، بل سقط معه أكثر من عشرين شخصًا من المرافقين والمارة، وجرح نحو مئتين، وهؤلاء جمعيًا لديهم أهل وأسر لا زالت تزور قبورهم وتبكيهم، كما أن الاغتيالات في لبنان طالت العديد من الشخصيات رفيعة المستوى أمثال باسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وبيار الجميل ومروان حمادة وإلياس المر ووسام الحسن، ولا بد من التذكير بشكل خاص بضابط الأمن اللبناني الشاب وسام عيد الذي كان أول من تنبه إلى ضرورة تفكيك شبكة الهواتف والاتصالات فنجح تباعًا في كشف هويات المشاركين في الاغتيال وارتباطهم بحزب الله، وكان أن دفع حياته ثمنًا لأداء واجبه.

هؤلاء لا يمثلون تيار المستقبل أو المسلمين فقط، بل يمثلون صوت لبنان الحر الباحث عن المستقبل والازدهار، وكثير من الأيادي تشير إلى حزب الله في العديد إن لم يكن جميع جرائم الاغتيال تلك، لكن لا أذكر أن عنصر أو قيادي في حزب الله أو سياسي موالي لحزب الله اغتيل في لبنان على يد شركاء الوطن.

إن لحظة النطق بالحكم في قضية اغتيال الحريري كانت نصرًا لكل لبناني وعربي وأي إنسان يبحث عن العدالة في كل مكان، لكن كما قيل «كان يفترض أن تخرج بيروت لتصغي إلى القرارات في اغتيال الرجل الذي اغتيل لأنه أعاد بناءها، فإذا بها تخرج باكية بين الحفر والركام والخراب والأنين».

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s