كم كنتُ سعيدًا الأسبوع الفائت وأنا استمع لتأكيد جلالة الملك المفدى حمد بن عيسى حفظه الله وقوف مملكة البحرين الى جانب الشعب اللبناني وتضامنها معه في الظروف الصعبة التي يمر بها بعد الانفجار في مرفأ بيروت، وحديث جلالته أيده الله حول أن أفراد الجالية اللبنانية في البحرين هم في بلدهم، ومتابعة جلالته الحثيثة مع سمو الشيخ ناصر الجهود القيمة التي تقوم بها المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية في لبنان.
إن جلالة الملك المفدى من خلال هذه المبادرة يؤكد مرة أخرى أنه القائد العروبي الحكيم الحليم، فإذا كان لبنان بلد العروبة بمعظم مكوناته وأطيافه، إلا إننا يجب ألا ننسى مدى الإساءة التي تعرضت وتتعرض لها مملكة البحرين من قِوى لبنانية ميلشيوية وشخصيات تدور في فلكها، وصلت في بعض الأحيان إلى حد التهديد بالتدخل العسكري، ومثل أي والد حليم تسامح جلالة الملك ولم يغلق على اللبنانيين أبواب بيتهم الثاني، البحرين، كما قال جلالته، بل هم دائما مكان ترحيب، والبحرين بأجمعها تعلم أن غالبية العظمى من اللبنانيين يحبون البحرين والبحرينيين ويحبون أهل الخليج بالإجماع وأهل البحرين بالذات، فهناك الكثير الكثير من التشابه بين الشعبين.
وكم كان بالغ تقديري وامتناني لأخواني وأخواتي ومحبينني من أعلى من المراكز لأصغرها هنا في البحرين وقد اتصلوا بي كما لم أعهد من قبل للاطمئنان عن وضعي وعن أهلي في لبنان، وإعرابهم عن استعدادهم لتقديم أي دعم أو مساعدة ممكنة.
لا زالت تفاصيل مأساة لبنان إثر الانفجار تتكشف وتسلبني عقلي وتفكيري بشكل شبه كامل حتى الساعة، فهول الكارثة كبير جدًا، لكن في كل كارثة هناك لحظات ومشاهد فخر وأمل، من بينها حرص جلالة الملك المفدى على متابعة الجهود البحرينية لإغاثة لبنان شخصيا، ومن بينها أيضا الهبَّة البحرينية لإغاثة بيروت، فالكل حزين ومتأثر ومتعاطف ويريد تقديم العون بيده أو بلسانه أو حتى بقلبه.
ولقد تابعت باهتمام كبير الفيلم الذي صوره الشاب البحريني عمر فاروق ضمن الطاقم البحريني المتوجه لإغاثة لبنان، وكيف شعر بسعادة غامرة عندما وصل إلى أرض مطار بيروت ليخدم وطنه الثاني بحب وشغف كما قال، وذهابه إلى المناطق المنكوبة وإلى المرفأ، كان سعيدًا أنه في بيروت للمساعدة وحزينًا لما رأى، وتكلم مع الناس من دون أن يسألهم عن الدين أو الطائفة أو المرجعية، دخل البيوت وتكلم مع الناس وواساهم، وقابل سيدة مسيحية تقف وسط حطام منزلها وتقول «يا عدرا»، فما كان منه إلا أن اقترب منها وقبَّلها على رأسها، في تصرف يعكس حضارة وثقافة وانفتاح الشعب البحريني.
الأوضاع في لبنان صعبة جدًا، وأنا أؤيد السيدة التي طلبت من الرئيس الفرنسي ماكرون إيصال المساعدات للبنانين المنكوبين مباشرة وليس عبر الساسة الفاسدين، وأعمل حاليًا وفق هذا النهج، والموظفون لدينا في مطاعم مكدونالدز في بيروت يوزِّعون الوجبات مجانا على الناس، واللافت في الأمر أننا وجدنا أن المحتاج يأخذ الوجبة مجانا، أما المقتدر فيصر على دفع ثمنها لزيادة قدرة المطاعم على تقديم وجبات أكثر، ورغم الخسائر الفادحة التي تُمنى بها مطاعم مكدونالدز في لبنان منذ شهر أكتوبر الماضي بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة فقد بادرنا إلى منح راتب شهر إضافي للموظفين، ومساعدة أولئك الذين تضررت بشكل أو بآخر بيوتهم أو سيارتهم أو دراجتهم، واعتقد كرجل أعمال أن التفكير اليوم لا يجب أن يدور حول الربح والبقاء في السوق، بل تقديم الإغاثة لمساعدة المجتمع كله على الثبات والصمود.
وأرى الآن حراكًا إغاثية عربيًا كبيرًا تجاه لبنان، البحرين والإمارات والسعودية ومصر والجزائر والعراق وحتى سوريا الجريحة وجميع الدول العربية بادروا إلى مد جسور إغاثة جوية، وألمس تعاطفا كبيرًا جدًا مع اللبنانيين في جميع الشوارع العربية، لكن أرى أيضًا أن لبنان بحاجة أيضًا إلى جهد سياسي عربي يعيده إلى حضنه العربي، جهد سياسي ليس لحل أزمة الكهرباء أو البطالة أو الفقر هناك، وإنما لاقتلاع مسببات تلك المشاكل، وإعادة تشكيل النظام السياسي والعسكري والأمني على أسس المواطنة والولاء للبنان ولتاريخ لبنان العروبي، وليس أي شيء آخر.
لكن كل الجهود الإغاثية للحكومات والمنظمات والأفراد على أهميتها ليست هي الحل الشافي لمشكلة لبنان، الحل هو التأكد من أن لبنان بعد الرابع من آب لا يجب أبدًا أن يكون كما بعده. لقد أخرج هذا التفجير كل القذارات والخطايا والآثام التي ارتكبها الساسة اللبنانيون، وآثار الكثير من الأسئلة مقابل جواب واضح فقط: تسلط دولة غريبة طامعة على بلد السلام والحب والعطاء.
العرب، والمملكة العربية السعودية تحديدًا، هي من وضعت حدًا لحرب أهلية مدمرة في لبنان استمرت 15 عامًا من خلال اتفاق الطائف، لكن ما حدث في السنوات الأخيرة مع الأسف هو أنه كلما ازدادت سيطرة حزب الله على لبنان، بشكل مباشر أو عبر وكلائه مثل التيار الوطني الحر الذي يتزعمه عون وصهره باسيل، انكفأ الدور العربي في لبنان.
لبنان عربي، وليس حديقة خلفية لإيران، تماما كما هو العراق وسوريا واليمن، والمقاومة ومحاربة إسرائيل وتحرير القدس ذرائع واهية يصدقها ساذجون، فما أسعد إسرائيل وهي ترى لبنان وسوريا والعراق واليمن وقد وصلت حالهم وجيوشهم إلى ما وصلت إليه من تفكك وانهيار، وواهم من يعتقد أن من مصلحة إسرائيل القضاء على حزب الله، فلماذا تقضي عليه وتريح المنطقة العربية منه؟ نعم، السؤال بهذه البساطة، فإسرائيل لم تدمر بيروت ولم تدمر سوريا، فاليوم ظهرت كل الأوراق على حقيقتها، والكل يعرف اليوم من هو المجرم الحقيقي بحق العرب والإسلام.
العروبة هي الحل الأنسب لطبيعة التركيبة الدينية والطائفية في لبنان، وهي الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتفق عليه ونلتف حوله كسنة وشيعة ودروز وموارنة وكاتوليك وجميع الأديان، وحتى اللادينيون، كلنا فخورين بإرثنا الحضاري المسيحي في لبنان، وهو يفتح لنا بابًا كبيرًا للتعاون مع أوروبا، كما أننا فخورون بإرثنا الحضاري الإسلامي، ومن خلاله نوطد علاقتنا مع الدول المسلمة، وفي الواقع إن تنوع الأديان والطوائف في لبنان هو نقطة قوة حضارية فريدة وليس نقطة ضعف.
إنها مسؤولية السياسيين والمفكرين العرب الآن، لدينا الكثير من الموارد، والقوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، والسياسيون الشرفاء في لبنان يفتحون ذراعيهم لكل جهد عربي يساعد لبنان على استعادة عروبته.