سعيدٌ.. حزين!

لعل أجمل وزارة استحدثت في الوطن العربي هي وزارة السعادة في الإمارات العربية المتحدة، فكل الوزارات الأخرى هدفها خدمة المواطن ورفاهيته، لذلك تلخص وزارة السعادة ومؤشراتها مدى نجاح الجهاز الحكومي ومختلف المؤسسات في تحقيق سعادة الناس.

ناقشت فكرة السعادة مع أصدقاء لي، فرأيتهم يخلطون بين السعادة كشعور داخلي دائم بالهناء والرضا وانشراح الصدر ينعكس على جميع تصرفاتنا ومناحي حياتنا، وبين الأحاسيس العابرة المرتبطة بمتعة أو نشوة نستمتع خلالها بأغنية أو مأكل أو ملبس أو رحلة. السعادة لا تعني المال أو الجاه أو القصور أو السيارات الفارهة، وما إلى هناك من متع الحياة، إنما ذلك بعض من مكوناتها وليس جميعها.

كانت والدتي رحمها الله تقول لي «الغَلَبَة والغُلْبَة تأتي من داخل الإنسان»، بمعنى أن ثقتنا بالنجاح والنصر هي من يحقق لنا ذلك، ولا يمكن لأحد أن يهزما إذا لم نقبل نحن بالهزيمة، وأنا اعتقد أن السعادة أيضا تأتي من الداخل. أؤمن بأن القناعة أصل السعادة، وأعرف أصدقاء كثير لديهم شح في المال أو العيال أو الحالة الاجتماعية، لكني أرى فيهم سعادة لا توصف، لأن المال جزء من حياتهم ولا يطلبون منه الكثير، بل يطلبون القليل ويعطون الكثير.

الخير يعم والشر يعم، والفلاسفة جميعهم تقريبًا ذهبوا إلى أن سعادة الفرد من سعادة المجتمع. تحدث عن ذلك أفلاطون في كتابه «الجمهورية» وربط بين السعادة والفضيلة، وقال إن من يسيء استعمال السلطة يصبح عبدًا عند شهواته، فيما اعتبر أرسطو أن الفضيلة ضرورية للمرء من أجل ان يكون سعيدا، أما ابن سينا، أبرز مفكري العصر الذهبي الإسلامي، فاعتبر أن السعادة غاية البشر، والسعادة الحقيقية مستقلة ولا تشوبها شائبة من الاهتمامات الدنيوية.

هذا النظرة الفلسفية تفسر لنا سر تعاستنا وبؤسنا كعرب في المجموع، نسمي أولادنا سعد وسعيد وسعود وسعاد وسعدى، ونحن أبعد ما نكون عن السعادة. نبحث عن سعادتنا في سراب، في السماء وفي قراءة الكف والفنجان، لا نريد أن نخرج من دائرة الراحة لبناء سعادتنا، نريد أن نربح اليانصيب وكفى. اكتب على جوجل كملة «تفسير» وستجد أن جوجل يقترح عليك بعدها مباشرة كلمة «الأحلام». إذاً هيا نعود إلى النوم.

اقرأ الجريدة صباحًا أو استمع إلى نشرة أخبار في التلفاز، ستجد أن حالنا كعرب يرثى لها، منازعات وحروب وجوع وفقر وبطالة وموت، تكالبت علينا دول مثل إسرائيل وإيران وتركيا وحتى إثيوبيا التي تهدد أمننا المائي في السودان ومصر. لا شك أن نشرات الأخبار في دول العالم مثل الولايات المتحدة والصين والبرازيل وتنزانيا تنشر قصصًا مأساوية أيضًا، لكنها تحديات آنية مرتبطة بجائحة أو فيضان أو حريق وتنتهي بعد فترة لتعود الناس لحياتها الطبيعية، أما مشاكلنا فمتراكمة مزمنة، صح فيها قول المتنبي «تكسرت النصال على النصال»، حتى أصبحنا إذا حدث وضحكنا نقول «الله يعطينا خير هذا الضحك، أكيد ستحدث مصيبة ما».

نحن في أمس الحاجة إلى مفكرين أسوةً بجان جاك روسو وأوغست كونت الذين رسمت أفكارهم معالم نهضة أوروبا الحديثة، نحتاج إلى من يقدم لنا رؤية تحررنا من الأوهام والبؤس وتؤدي بنا إلى مسار يسمح لنا كدول وشعوب وأفراد بناء حياة ذات معنى وقيمة.

كيف نكون سعداء ونحن منذ أكثر من مئة عام لا نعرف إلى أين نسير، تداهمنا كل مصيبة أكبر من سابقتها، لقد ولدت مع قيام دولة إسرائيل، وطالما سمعت من جدتي رحمها الله وهي من عائلة الحسن اللبنانية العريقة تقول إن أمنيتها أن تدفن في القدس، كان هذا شعور كل رجل وامرأة في ذلك الوقت.

عندما كبرت قليلاً حدثت النكبة، بعدها بأعوام قليلة بدأت الحرب الأهلية اللبنانية، تركت لبنان وقدمت إلى الخليج الذي رأيت فيه جنة الله على أرضه، واحتضنتني البحرين، لكن ما لبثت أن قامت الثورة الخمينية التي جلبت الفتن للمنطقة واستنزفت مقدراتها، ثم احتل العراق الكويت، لتحدث بعدها حربي الخليج الأولى والثانية، وصولاً إلى الخريف العربي الذي لا زلنا نعاني من تبعاته الكارثية.

يحل علينا هذه الأيام عيد الأضحى المبارك، أحرص على أن أقول للجميع كل عام وأنتم بخير من كل قلبي، لكني أدرك في قرارة نفسي أن الناس ليست سعيدة بما يكفي، ليس بسبب الظروف الصعبة التي فرضتها جائحة كوفيد-19، وإنما الجو العام لا يشجع على الفرح الكامل في هذا العيد وفي الأعياد السابقة أيضا.

أنا لست متشائمًا ولكنني حزين، كلي أمل وتفاعل مع الحياة، أحب الكوميديا والضحك، أحب قول الشاعر إيليا أبو ماضي «كن جميلاً ترى الوجود جميلا»، كل يوم أرى نفسي ولدت من جديد وكل يوم عندي أهداف وأعمال أٌقوم بها، وأخلق لنفسي عمل إن لم يكن لدي عمل، فأنا أحب الحياة، وأحب السعادة وأريد أن أكون سعيدًا وأنشر السعادة من حولي، لكني أقر بأنني لا أستطيع أن أرى مشهدًا حزينًا دون أن أتأثر وأحيانًا أبكي، ولا أستطيع رؤية إنسان يتألم. في هذا المشهد المظلم أرى بقعة لا زالت بحمد الله منيرة، هي دول الخليج العربي، وتجعلني أفخر أكثر بعروبتي، بلغتي وتراثي وأهلي وأجدادي، أرى كيف تمكنت هذه الدول من بناء نهضتها بهدوء بعيدًا عن التطرف وحركات العنف، وصمدت في وجه التيارات الطامعة والساعية لبث الفتنة، وتفاعلت القيادات الخليجية بمحبة وعقلانية مع شعوبها، فعمَّت السعادة الجميع ونعم بها الجميع. وإذا كانت هذه هي القبلية، فمرحبا بها، بل كم أنا فخور بها، وأدعو التيارات الليبرالية والمفكرين اليساريين للتعلم منها.

من زجاج مكتبي في محافظة المحرق أُطل على مشروع «سعادة»، وأرى أنه سيحمل السعادة بالفعل للمنطقة وللبحرين، وأنه يشكل نموذجًا للمشاريع التنموية التي تخدم المواطنين والمقيمين، لتضاف إليها جهود الحكومة في مجال الصحة والتعليم والإسكان وغيرها، وكلها تصب في صالح رفاهية الناس وسعادتهم.

لقد بدأت مقالي هذا بالحديث عن دولة الإمارات ووزارة السعادة فيها، واختم المقال بالحديث عن «مسبار الأمل» ليس لكونه أول مشروع إماراتي عربي لاستكشاف المريخ وإنما كونه «مصباح أمل» في نفق مظلم، علينا أن نعمل معًا على إضاءة المزيد من المصابيح المماثلة، في العلوم والأبحاث والتنمية، ونعمل على بناء مستقبل أقل شقاء وأكثر سعادة لنا ولأبنائنا.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s