لي صديق ثري جدا استغربت عندما علمت منه أنه يبحث عن وظيفة لابنه البالغ من العمر 21 عام، فاقترحت عليه أن يوظف ابنه في إحدى شركاته أو يعطيه رأس مال يستطيع من خلاله تأسيس عمله الخاص!. لكن رده كان حاسما ومقنعا بالنسبة لي، قال إنه لا يرد تدليع ابنه، بل يريد له أن يصعد سلم الحياة العملية من الصفر، كما فعل فهو، حتى يتمكن من إدراك معنى شظف العيش، ويعرف قيمة الأشياء، ولا يفرط بما لديه من مكتسبات.
قال لي صديقي “المال يعني السلطة والسلطة في يد عديمي الخبرة والإدراك والنضج سلاح ضال قاتل، فكم من أولاد قتلهم أهلهم حُبَّا عندما أغدقوا عليهم الأموال دون اكتراث فصنعوا منهم أشخاصا ضعفاء فاشلين مثيرين للسخرية والشفقة”.
اعتقد أن هذا هو حال الكثير من دولنا العربية، ليبيا والعراق واليمن وسوريا والجزائر وغيرها، والتي بذل أهلها الدماء من أجل الاستقلال والتحرر وما سموه بـ “طرد الاستعمار”، لكن ذلك كان أشبه بـ “قفزة في الفراغ”، حي قطعوا علاقتهم مع الغرب المتحضر بدعوى الاستقلال الناجز ومحاربة الإمبريالية والرأسمالية، ولم يكونوا جاهزين بعد لقيادة مسيرة التطور العلمي والعمراني والاقتصادي والحضاري في دولهم بأنفسهم، فخرجوا من تحت مظلة الاستعمار ليسقطوا في براثن الدكتاتوريات القبيحة التي سلبت من كل شيء لونه وطعمه وجماله.
لم يسألوا أنفسهم لماذا استُعمِرنا، وما هي نقاط ضعفنا وما هي نقاط قوة المستعمر، بل أخذتهم العاطفة والعزة بالنفس، وأعمت أعينهم عن أهمية التفكير المنطقي العقلاني كما فعلت اليابان بعد خسارتها الحرب العالمية الثانية، اليابان التي فكرت حينها من الداخل إلى الخارج وليس العكس، تناست جراحها وخلعت لباسها التقليدي “الكيمونو” وقررت مصافحة الدول التي غلبتها والدخول معها في شراكة. لقد خسرت اليابان الحرب لكنها فازت في التنمية والتطور والتقدم. طبعا أصحاب هذا النهج والتفكير يكونون عادة من الكفاءات الوطنية والخبراء في الإدارة والتنمية، وليس العسكر ورجال الدين وزعماء الطوائف الذين يستحوذون على عقول الناس ويزرعون فيهم مشاعر الولاء الغبي الأعمى.
ربما يمثل عملاق الطاقة العالمي “أرامكو” مثالا حيا على فعالية النهج الياباني في التعامل مع الغرب، حيث تمكنت السعودية في البداية من الاستفادة مما لدى الولايات المتحدة الأمريكية من علوم متقدمة في مجال استكشاف واستخراج وتكرير وتسويق النفط، ورويدا رويدا تم توطين تلك الخبرات والمعارف، وأصبح السعوديون في كل مفاصل الشركة، بل واطلقوا منها شركات أخرى ذات صلة بقطاع البتروكيماويات وغيرها، وجرى توظيف خيرات أرامكو في النهضة التنموية الهائلة التي تشهدها المملكة العربية السعودية منذ عقود، واستفاد منها ليس السعودية والسعوديون فقط، وإنما دول المنطقة والعالم.
أكتب هذا المقال وما يجري في ليبيا حاليا لا يغيب عن بالي، ليبيا التي الغنية بخيرات نفطية هائلة مقابل عدد سكان لا يتجاوز الأربعة ملايين نسمة، لكن فيها أيضا العقيد القذافي، الأخ القائد غريب الأطوار والفكر، صاحب الكتاب الأخضر، الذي يبدو أنه قرر أن أفضل طريقة للسيطرة على شعبه هي إغراقه في الجهل.
وكانت النتيجة هي أن “الرجل العثماني المريض” وجد فرصة في منطقتنا العربية من أجل استعادة أمجاد أجداده في غابر الزمان، والعودة بالجيش الإنكشاري إلى المنطقة، مستغلا خواصرنا العربية الرخوة في ليبيا وسوريا وغيرها، معتمدا على المتطرفين للعب دور “حصان طروادة” في إدخاله إلى بلادنا وبرلماناتنا وإعلامنا وعقول ناشئتنا.
كنا سعداء بتركيا الحديثة، تركيا العلمانية التي اختارت طريق العلم والحضارة، وفرحنا بالنهضة الاقتصادية التي تشهدها، وطالما اعتقدت عندما كنت تلميذا أن تركيا هي ممرنا نحن العربي للانفتاح على العالم، ليس ممرا جغرافيا فقط، بل فكريا وثقافيا أيضا، لكن الآن يجب أن ندعم كل جهد عربي، مصري أو خليجي أو مغربي أو غيره، يعمل من أجل إنهاء أحلام العثمانيين في أرضنا.
لقد شَغَلنا الربيع العربي عن مواجهة مشاكلنا الخارجية التي تفاقمت رغما عنا وفي غفلة منا، تمدد الإيراني والعثماني في منطقتنا، وظهرت أمامنا تحديات وجودية جسيمة أخرى مثل سد النهضة الإثيوبي، والانهيار الاقتصادي في لبنان، لقد أصبحنا مع الأسف مثل حارس المرمى الذي يُسدد عليه جميع لاعبي الفريق الخصم في وقت واحد، حتى كادت تتمزق شباكه، لكنه لا زال يصر على الوقوف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لا بأس، نحن أهل هذه الأرض، مررنا بالكثير الكثير من المحن والأهوال، وكنا في كل مرة نخرج منتصرين وإن طال الزمن.