مشهد فيديو واحد يختصر أزمة سد النهضة، تظهر فيه امرأةٌ إثيوبية تمسك إبريقا وتصب المياه في كوبين صغيرين قائلة إن بلدها هي التي تتحكم في زمام الأمور، أما المصريون فردوا على هذا الفيديو بمقاطع مصورة على الإنترنت يشير أحدها إلى أن السدّ ليس مُحصّنا ضد الهجوم!
في الواقع لا يجب إنكار حقوق إثيوبيا في التنمية وانتشال شعبها من براثن الفقر، خاصة وأنها تقول إن سد النهضة سيوفر الكهرباء لـ 70 مليون إثيوبي من أصل مجموع السكان البالغ 100 مليونا. بل إن أية مشاريع تنموية مماثلة في دول إفريقيا جنوب الصحراء ستعود بالخير على دول القارة الإفريقية بل العالم أجمع، والمثل يقول “إذا جارك بخير انت بخير”.
لكن بالمقابل بات من من الواضح أن المفاوضات مع أديس أبابا وصلت إلى طريق مسدود، وأن الأمن المائي المصري بات في خطر حقيقي، وفي ظل وصول المفاوضات إلى نقطة “اللاعودة”، تبدو الخيارات أمام مصر محدودة للغاية في التعامل مع الأزمة، التي تُهدد بجفاف أكثر من نصف الرقعة الزراعية الحالية في البلاد، وارتفاع نسبة الفقر والبطالة في البلاد، وأخطر ما يمكن أن يحدث هو تسبب هذه القضية باندلاع حرب، خاصة وأن إثيوبيا من خلال تعنتها تقوم بإعلان حرب على مصر.
لا أعرف صراحة من أين يستمد المفاوضون الإثيوبيين كل تلك المهارة والبراعة والجرأة في إدارتهم لملف المباحثات مع مصر، ولا استبعد أنهم يخضعون لتدريب ويحصلون على استشارات من جهات أجنبية، فمن يتابع مجريات المفاوضات حول سد النهضة يدرك أن الأثيوبيين يسيرون وفقا لخطة شيطانية مدروسة ظاهرها القسوة والمرونة والتناقض والسجال والحجج، وجوهرها المضي قدما في عملية بناء وملئ السد وكأنه ليس هناك مفاوضات من الأساس.
وتنتهج أثيوبيا مع الأسف أسلوب “المراوغة” في مفاوضاتها مع مصر والسودان، وذلك من خلال اللعب على عامل الوقت وذلك بجلوسها على طاولة المفاوضات في كل مرة دون التوصل إلى اتفاق، وذلك بالتوازي مع العمل الذي يجري على قدم وساق للانتهاء من بناء السد والوصول إلى مرحلة ملء السد وتشغيله.
وإذا كانت مصر تعمل حاليا على تدويل قضية سد النهضة عبر إحالتها إلى مجلس الأمن وتحميل دول العالم مسؤوليتها إزاء هذه الأزمة الإفريقية، فإن إثيوبيا قد قامت بتدويل هذه القضية منذ سنوات، عندما حرصت على مشاركة عدد كبير من الدول مثل الصين وألمانيا وإيطاليا وغيرها في تمويل وبناء هذا السد، رغم أن دولة واحدة مثل الصين كان بإمكانها القيام بذلك بمفردها، كما حشدت إثيوبيا شعبها خلف قضية بناء السد ليس إعلاميا فقط، وإنما ماديا أيضا عندما باعت جزءا كبيرا من أسهم السد البالغة كلفته 4,6 مليار دولار على ملايين الإثيوبيين في الداخل والخارج الذين بات لهم مصلحة مادية أيضا في إكمال المشروع وبات دفاعهم عنه أكثر شراسة.
لكن تداول قضية سد النهضة في أروقة مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي والبنك الدولي وغيرها دون الوصول إلى أي نتيجة تذكر دليل آخر على عجز منظمات المجتمع الدولي على حل أي خلاف، وتعطل دور هذه المنظمات التي أصبحت أكثر فأكثر مكانا للردح وتسجيل النقاط وتبادل الشتائم، وليس عجز مجلس الأمن مؤخرا عن التوافق على إدخال مساعدات إنسانية إلى نحو أربعة ملايين سوري شمالي سوريا إلا دليل على ذلك.
ولقد نفت إسرائيل من خلال سفارتها في مصر ما تردد حول دور مزعوم لتل أبيب في بناء سد النهضة، وبصرف النظر عن صحة هذا النفي، لا يجب أن نغفل هنا عن أن طائرتين إسرائيليتين أو صاروخ إسرائيلي موجه على السد يكفي لجعل مصر تحت تهديد وجودي دائم، إنه تماما كمن يضع مسدسا على رأسك.
لطالما فطن المصريون إلى أن أمنهم القومي لا ينحصر داخل الحدود الجغرافية لدولتهم، وقد لعبت مصر دورا كبيرا على الدوام في القضايا العربية القومية الكبرى انطلاقا من إدراكها لدورها في نهضة الأمة ككل، ومن هنا يجب فهم حالة الغضب التي تسيطر على الشارع المصري تجاه قضية سد النهضة.
إن كارثة سد النهضة على مصر هي إحدى النتائج غير المباشرة لما يسمى زورا وبهتانا بـ “الربيع العربي”، فقد تزامن بدء تشييد هذا السد في العام 2011 مع انطلاقة دوامة المشاكل والقلاقل التي أسفرت عن صعود المتطرفين إلى سدة الحكم في مصر، فانشغلت البلاد عن التهديدات الخارجية الكبرى، وواصلت سلطات أديس أبابا بصمت وسرور عملها على تشييد السد، وعندما عادت الأمور لنصابها في مصر واستقرت نوعا ما، كان كابوس هذا السد قد أصبح حقيقة واقعة.
مع الأسف، العالم لا يعرف إلا لغة القوة، القوة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، والتي تتوجها جميعا القوى العسكرية، وحسنا فعلت مصر بإعادة تحديث جيشها وبناء المزيد من القواعد العسكرية وتعزيز قواتها البحرية والجوية بشكل خاص، لكن أكبر جيش عربي تواجهه تحديات جمة لا تقتصر على الحفاظ على جريان مياه نهر النيل، فمن الغرب هناك ليبيا، وإلى الشرق هناك سيناء وخطر الجماعات الإرهابية، وفي الجنوب الشرقي تسعى تركيا لإيجاد قواعد عسكرية في دول مثل جيبوتي والصومال والسيطرة على مضيق باب المندب، وفي البحر المتوسط تشتعل حرب أخرى هي حرب السيطرة على المناطق الواعدة بالغاز.. ، ليصبح الحال كما قال المتنبي لسيف الدولة الحمداني “وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ.. فعلى أي جانبيك تميلُ!”.
تغطي الصحراء نحو 80% من مساحة الوطن العربي، والأنهار الثلاثة الكبرى في الوطن العربي: النيل والفرات ودجلة تقع منابعها خارج حدود الوطن العربي، وهنا يجب ألا ننسى في هذا السياق ما تقوم به تركيا حاليا من مواصلة نهب مياه نهر الفرات من خلال إقامة المزيد والمزيد من السدود عليه، حتى تحول هذا النهر العظيم عند دخوله سوريا إلى ما يشبه الساقية التي تتشكل حولها مستنقعات، فما بالكم في حاله عندما يترك سوريا ليدخل العراق؟!
لا يجب أن تكون التنمية في بلد على حساب بلد آخر، ودائما ما قلت إن “على المائدة طعام يكفي الجميع” بشرط أن يأخذ كلٌ بحسب احتياجه وحجم معدته، وإلا سيُعرِّض نفسه للتخمة وعسر الهضم فيما سيعاني الباقون من الجوع وسوء التغذية، وهنا من الطبيعي ألا تكون المساواة في تقسيم الطعام بالتساوي بين الجميع، بل كل حسب احتياجاته.