تقول القصة إن فلاحًا اكتشف أن إحدى دجاجاته تبيض كل يوم صباحًا بيضة ذهبية، فغمرته سعادة لا توصف، وأصبح ينتظر قدوم الفجر على أحر من الجمر للحصول على بيضته الذهبية التالية، لكنه بمرور الوقت أصبح توَّاقًا أكثر فأكثر للحصول على المزيد من البيض الذهبي، وبدأ يمل الانتظار، وتملَّكه الجشع وسيطر على تفكيره، فما كان منه إلا أن أحضر سكينًا وذبح الدجاجة وشق بطنها طامعًا في الحصول على ما بداخلها من بيض ذهبي دفعة واحدة، فلم يحصل على مراده طبعًا، وخسر دجاجته الذهبية.
ليس هناك دجاجة تبيض ذهبًا بالطبع، ولكن هناك أوطان تبيض ذهبًا، وبمرور الوقت يطمع قادتها وساستها الفاسدون بالمزيد والمزيد، فيشحذون سكاكينهم ويذبحون بلادهم، وما الكثير من الساسة في لبنان أو العراق أو سوريا إلا مثال على ذلك.
وأنا بالفعل لا أستطيع أن أفهم كيف يواصل الساسة في لبنان سجالاتهم العقيمة وتقاذفهم المسؤولية إزاء الوضع المزري الذي وصل إليه البلد، فيما المزيد من الناس يغرقون يوما بعد يوم في الجوع والقهر والذل، ولا أجد من يبادر ويقف ويقول كفى، ويقدم حلاً مبتكرًا شجاعًا يخرج الناس مما هم فيه من جوع وفقر وضياع.
أعرف كثيرًا من المسؤولين اللبنانيين منذ كنا على مقاعد الدارسة، ولست بصدد الحديث عن أعمالهم وثرواتهم، ولكن أناشد ضمائرهم أن يراجعوا أنفسهم، وأن يخرجوا من دوامة المحاصصة السياسية والطائفية، وأن يدركوا أن هذا هو وقت التضحية من أجل إنقاذ لبنان.
لا أستطيع أن أفهم كيف وصلنا في لبنان إلى وضع أصبحنا فيه أفقر من دول مثل الصومال أو سوريا أو حتى بنغلاديش!. يبدو أننا لم نصغِ جيدًا أو لم نفهم القول المنسوب للأديب اللبناني الشهير جبران خليل جبران «ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع».
كم يحزنني أن أرى ما يحدث في لبنان حاليًا من فقر وجوع، وأرى اللبنانيين الكرام يُذلّون على أبواب الأفران من أجل ربطة خبز تسد رمقهم ورمق عائلاتهم، وقد فجعت بالفعل عندما سمعت خبر المواطن اللبناني الذي انتحر لأنه لم يعد قادرًا على تحمل تكاليف الحياة، تاركًا إلى جواره ورقة كتب عليها «أنا مش كافر.. لكن الجوع كافر».
الحياة هي أعظم هدية منحنا إياها الله عز وجل، ولو كان شخصًا عمره مئة عام وقيل له إن بإمكانه أن يعيش عامًا آخر مقابل كل ثروته سيوافق على الأغلب، فما الذي يدفع شخصًا للانتحار، وأي ظروف وقهر وذل عاينه وعاشه؟ المشكلة الأكبر برأيي هي عندما يجوع الأطفال ولا يجد الأب ما يسد به رمقهم، كم هو صعب أن يعجز الأب عن تأمين حليب لأطفاله؟! كم هو صعب أن ينظر في عيونهم وهم جياع، فيما هو عاجز لا حول له ولا قوة؟! وقد قيل سابقا «لا شفاعة في الموت ولا حيلة في الرزق».
أمام ما يحدث في لبنان يزداد إدراكي لقول الإمام علي بن طالب كرم الله وجهه «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، وأفهم أكثر دوافع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عندما أوقف إقامة حد السرقة في عام المجاعة. بالفعل الجوع ربما يدفع الناس لفعل أي شيء.
أنا متفائل دائمًا، فما أصعب العيش لولا فسحة الأمل، لكني أرى لبنان حاليًا في وضع سيئ لم أره في حياتي، حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية لم تجوع الناس كما جاعت اليوم، حينها كان هناك ما يسمى بـ «اقتصاد الحرب»، وزعماء الحرب يحصلون بطريقة أو بأخرى على أموال ينفقونها على ميليشياتهم واتباعهم، أما الآن فحتى دولارات اللبنانيين أنفسهم حبيسة خزن البنوك ولا يستطيعون سحبها.
ولا أكشف سرًا إذا قلت إنه من خلال متابعتي لأداء سلسلة مطاعم ماكدونالدز التي أملك امتيازها في لبنان أجد أن هذه المطاعم باتت على حافة الإفلاس، خاصة وأنها خسرت الغالبية العظمى من زبائنها من أفراد الطبقة المتوسطة والأقل من المتوسطة التي لم تعد قادرة على تحمل ثمن حتى وجبة همبرجر الشعبية الرخيصة، وبدأنا نرى أن من يرتاد هذه المطاعم هم الأغنياء، أو الذين كانوا أغنياء.
غالبًا نعمل على تحفيز أبنائنا والأشخاص من حولنا على العمل والابتكار، ونشعل فيهم الحماس كي ينطلقوا في الحياة يحققوا ذواتهم ويسكبون عيشهم، لكن في لبنان ما الذي يمكن أن تقوله لشخص كان يعمل في وظيفتين أو ثلاثة ليضمن فقط أدنى متطلبات الحياة الكريمة، لكنه الآن فقد جميع وظائفه ومصادر رزقه؟
عندما يحتاج شخص لألف دولار شهريًا حتى يعيش هو وأسرته على حد الكفاف، ثم لا يجد فرصة عمل أو وسيلة للحصول على هذا المبلغ، لا يجب أن نستغرب عندما يتحول إلى قنبلة موقوتة تنفجر في أي لحظة، ولا يجب في هذه الحال طبعًا أن نستغرب فقدان الأمن وتزايد عمليات السطو والنهب والسرقة، وهناك مقولة مأثورة في تاريخنا تقول «عجبت لمن لم يجد قوت يومه كيف لا يخرج للناس شاهرًا سيفه!».
مخطئٌ من يعتقد أن موارد البحرين تفوق موارد لبنان بكثير، بل إن لبنان لديه سياحة وقطاع مصرفي واقتصاد يفترض أنه متنوع وأراضٍ زراعية وغيرها، لكنه يعاني بالمقابل من تفتت سياسي طائفي مقيت لا تستقيم في ظله أية عملية تنمية مستدامة، وفي ظروف مثل جائحة «كوفيد-19» تظهر معادن القادة وحرصهم على أوطانهم ومحبتهم لشعوبهم، فنجد البحرين وفرت شبكة أمان صحي ومالي واجتماعي يفوق توقعات أي شعب من حكومته، فيما وقفت حكومة لبنان عاجزة حتى عن ضبط سعر ربطة الخبز!
لا أعرف ماذا يخبئ لنا الغد، وهل وصلنا لقعر الهاوية أم أن الأوضاع ستزداد سوءًا؟! كل ما أستطيع قوله هو أرجوكم افعلوا شيئًا، أنقذوا لبنان.