من بين الأخبار التي شدت انتباهي الأسبوع الماضي خبر توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بتوجيه تعليمات لفروع الحكومة الفدرالية، بالتركيز على المهارات بدل الشهادات الجامعية في اختيار الموظفين الفدراليين.
لقد شدّني هذا الخبر لاعتبارات شخصية عديدة، من بينها أني آمنت طيلة حياتي بأهمية العلم والثقافة في تحقيق تقدم حقيق على صعيد الفرد والمجتمع والأمة، ولأني رجل أعمال أدرك تماما أهمية الاخيار الصحيح للموظفين المؤهلين في تقدم الشركة وزيادة تنافسيتها وإنتاجيتها، كما أني مستثمر في مجال التعليم من خلال امتلاكي مدرستين خاصتين أحرص كل الحرص على أن يحقق التلاميذ والخريجون فيهما تطلعات ومتطلبات سوق العمل والحياة بشكل عام.
وفي الواقع أعتقد أننا يجب أن نتوقف بالدرس والبحث والتحليل عند زيادة التوجه العالمي للاعتماد على المهارات والخبرات بدل الشهادات الجامعية، خاصة وأن بعض الشركات العملاقة في الولايات المتحدة والصين واليابان وغيرها بدأت بالفعل اعتماد هذا التوجه منذ وقت طويل.
ويجب ألا نحصر اهتمامنا في مسألة تطوير مناهج التعليم لتواكب متطلبات سوق العمل، ورغم أهمية هذا الأمر إلا أننا نجد أنفسنا في وقت تتغير فيه النظرة إلى التعليم برمتها، ويزداد عدد الطلاب -وحتى الأهل- الذين يتساءلون عن جدوى بقائهم نحو 16 عامًا على مقاعد الدراسة قبل بدء رحلة البحث عن فرصة عمل.
إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وستيف جوبز وبيل غيتس وغيرهم الكثير تركوا دراستهم في جامعات عريقة ليتفرغوا للنجاح في حياتهم العملية، وقد نجحوا بالفعل.
هذا يؤكد لنا أنه عندما تكون بيئة التعليم تقوم على التنافس بين الطلاب للحصول على المركز الأول نقوم من حيث لا ندري بزرع روح الأنانية من حيث ندري أو لا ندري في نفوس الناشئة، فحتى تتميز عليك التفوق على من حولك، وليس هناك إلا مكان لشخص واحد على القمة، أما عندما نزرع روح الابتكار والتعاون بين الطلاب فهذا يعني أننا نخلق جيلاً صانعًا للفرص وللوظائف، وليس باحثًا عنها. عندها سيجد الطالب أن هناك طرقا أخرى للنجاح حتى بدون حصوله على الشهادة الجامعية.
أنا هنا طبعا لا أقول إن الجامعة ليست مهمة، ولست أدعو شبابنا لتركها، ولكن أؤكد على فكرة أن الشهادة الجامعية ليست المفتاح الأكيد والوحيد لولوج سوق العمل، بل هناك أمور أخرى تلعب دورا حاسما في ذلك، ربما تفوق أهميته الشهادة الجامعية ذاتها، ومن بينها القدرة على بناء شبكة علاقات مثمرة، والذكاء العاطفي، والتعبير، والابتكار، والرؤية الثاقبة للأمور، والحماس والشغف، واتقان فن اقتناص الفرص، والتعلم المستمر مدى الحياة.
وكم أشفق على طالب وظيفة لديه قناعة مسبقة وكاملة أنه لن يحصل عليها إلا بالواسطة، رغم أنه لا جوانب ومهارات في شخصيته سوى تلك التي تعلمها في الجامعة، وقد صبَّ جل اهتمامه على التفوق على زملائه في الدارسة، ويعتقد أن معدله التراكمي العالي سيؤهله ليشغل منصب مدير فورا، دون أن يتحلى بأي صفة من الصفات التي ذكرتها في الفقرة السابقة.
أؤكد مرة أخرى أنني لا أود التقليل من أهمية الدراسة الجامعية كمرحلة تزود الطالب بمعلومات ومعارف، وتوسع مداركه، ولكن مع كل يوم نمضيه في العمل تقل أهمية تلك المعلومات والمعارف مقابل اكتساب معارف ومهارات عملية جديدة، حتى ندرك تماما أن الحياة العملية هي الجامعة الحقيقة. إنها جامعة مفتوحة لا تمنح شهادات وإنما دروسا طوال الحياة، إنها البحر الحقيقي لتعلم السباحة ومواجهة التيار، وفرصة لاختبار من أمضى حياته الدراسية يتعلم السباحة من اليوتيوب.
يجب أن أذكر هنا أيضا أن عددًا من الأشخاص الناجحين في حياتهم العملية يعودون إلى مقاعد الدارسة أو الجامعة بعد زمن، إدراكا منهم لأهمية الحصول على معلومات نظرية متقدمة تفيدهم في أعمالهم، أو ربما لمجرد الحصول على شهادة بكالوريوس أو ماجستير أو دكتوراه بغرض البرستيج ليس إلا.
إن جائحة فيروس «كوفيد-19» حاليًا ربما تكون فرصة لإعادة ترتيب قطاع التعليم وسوق العمل، خاصة مع تزايد الاعتماد على التعليم الإلكتروني والعمل عن بعد، وإذا كان «عالم ما بعد كورونا ليس كما قبله» فإننا مطالبون في ابتكار واختبار أساليب جديدة نؤدي بها أعمالنا ونعيش وفقها حياتنا، وأن نعتمد نهجا أكثر مرونة وجرأة نظرتنا لتطوير مجتمعنا ووطننا، فنحن الآن أمام أزمة لكنها في ذات الوقت فرصة غير مسبوقة لتجربة وتطبيق أفكار جديدة طالما ترددنا في تطبيقها، وذلك لنكون روادا كما كنا دائمًا.