آهٍ يا مرتع الصبا والشباب، وسنوات الشغف والانطلاق، الحب والزواج، الزمالات والصداقات، العلم والمعرفة والمهارة، الوثبة الواثقة نحو الحياة، آهٍ يا أيامي في الجامعة الأمريكية في بيروت
في العام 1962، أصبحت في الثامنة عشرة من عمري، وأكملت دراستي في المدرسة الدولية وأصبحت أشد حرصًا على مواصلة مسيرتي التعليمية، وكانت الجامعة الأمريكية في بيروت واحدة من أهم الجامعات في الشرق الأوسط والعالم، وكان من الصعب جدًا الحصول على قبول فيها، فنظام الجامعة يسمح لـ50 طالبًا لبنانيًا فقط بالانضمام إليها، من أصل 500 طالب يأتون من باقي دول المنطقة والعالم، وكنت من ضمن اللبنانيين الخمسين الذين قبلتهم الجامعة.
ولا أنسى يوم تخرجنا عندما قال لنا رئيس الجامعة حينها: لا أعلم كم طبيب أو مهندس أو فيلسوف أو رائد أعمال سنخرج هذا العام، لكن ما أعرفه ومتأكد منه هو أننا نخرج رجالاً ومؤثرين يسهمون في رسم مستقبل لبنان والمنطقة.
فمنذ نشأتها في العام 1866 تحت اسم «الكليّة السورية الإنجيليّة» عملت هذه الجامعة على ربط المنطقة بالعالم، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من مشاريع التنوير في المنطقة، كما هو الحال في جامعة الأزهر وجامعة بغداد وجامعة الزيتونة، لكن هذه الجامعة تبدو الآن غريبة عن محطيها، وليس العيب في الجامعة طبعًا، بل في لبنان الحاضن الذي تغير.
لقد بات من الواضح الأثر السلبي الكبير الذي تتركه الأوضاع المتردية في لبنان حاليًا على الجامعة الأمريكية في بيروت، والتي أصبحت تتعرض لخطر يهدد وجودها، وأنا أشعر بالعجز حيال ذلك، فلكي تستطيع الجامعة الأمريكية أن تعود إلى حياتها يجب أن يعود الأمل إلى لبنان، أن تعود الحياة إلى لبنان، ونجاح الجامعة الأمريكية في لبنان ارتبط بالحرية والانفتاح السائد في هذا البلد، وهي بدورها عززت الحرية والانفتاح، وبدون العرب والأجانب في لبنان لن يكون للجامعة معنى، ستكون مجرد مبانٍ باهتة.
ورغم أن رئيس الجامعة البروفيسور فضلو خوري طمأن الجميع مؤخرًا، وأكد أن الجامعة سوف تستمرّ «153 سنة أخرى»، إلا أن مواصلة من يمسكون بتلابيب السلطة في لبنان نهجهم الحالي يعني فيما يعني خنق الحريات والاقتصاد والاستمرار بالارتهان لدولة خارجية، وشتان ما بين المشروع الإيراني في لبنان ومشروع الجامعة الأمريكية هناك، وأخشى ما أخشاه أن يقضي الأول على الثاني.
الجامعة الأمريكية في بيروت هي مصدر لقيم التفكير الحرّ والفرديّة، وكانت على الدوام جزءًا فاعلاً من تاريخ لبنان، ومن أروقتها انطلقت الأفكار التحررية والليبرالية في الطريق نحو لبنان أفضل، وأسهمت الجامعة في تعزيز الانفتاح على جميع الحضارات والثقافات، ولا زلت أذكر كيف كان حي راس بيروت حيث مقر الجامعة يمثل فسيفساء متنوع من جميع الأعراق والجنسيات.
لقد جاء في كلمة دانيال بلس، رئيس الجامعة، لدى تدشينه «كوليدج هول» عام 1871: «هذه الكلّيّة هي لكلّ شروط البشر وطبقاتهم، بمعزل عن أي اعتبار للّون والقوميّة والعِرق أو الدين. المرء، أكان أبيض أو أسود أو أصفر، مسيحيًّا أو يهوديًّا أو مسلمًا أو غير مؤمن بدين توحيديّ، يستطيع أن يدخل إلى هذه المؤسّسة ويستفيد من كلّ مزاياها ثمّ يمضي في طريقه».
لكن لبنان ينكفئ الآن على نفسه أكثر وأكثر، ويتقوقع ويصبح رماديا بعد أن كان مليئًا بالألوان، فيه الكثير من الديمقراطية لكن ليس فيه حرية، حيث تصادر الطائفة أو الحزب رأيك مقابل إشعارك بالحماية وربما فرصة كسب رزق أو منصب سياسي، وفي بلد تمسك فيه الرجعية بتلابيب الحكم، ويسوده الفساد المالي والأخلاقي وتنعدم فيه المبادئ لا يمكن لمؤسسة أكاديمية مستقلة مستنيرة أن تزدهر.
دائمًا ما كانت الأكاديميات والمكتبات وأماكن التنوير والنقد وتعدد الفكر مصدر قلق وأرق لقوى الظلام والرجعية، فعندما اجتاح المغول بغداد قاموا بإلقاء جميع محتويات مكتبة بيت الحكمة في نهر دجلة، وكانت تضم حينها زهاء مليون كتاب، كما دمروا 36 مكتبة عامة في المدينة.
وبلغ النازيون ذروة حقدهم وصبوا جام غضبهم على دور العلم والثقافية والمكتبات في مدن أوربية عديدة، ولم يتوقف هذا النهج البربري أثناء الحرب العالمية الثانية على النازيين فقط، فعندما احتلت روسيا مناطق متنازع عليها في عام 1940م وهذه المناطق تمثل دول البلطيق: إستونيا، ولاتفيا، ولتوانيا، قاموا بحرق الكتب التي لا تتفق مع المعتقدات الشيوعية.
وعندما تمكن برابرة داعش من السيطرة على مساحات واسعة من سورية والعراق، قطعوا رأس تمثال أبو العلاء المعري ومسحوا مدينة النمرود التاريخية في العراق، كما دمَّر هؤلاء البرابرة الظلاميون الآتون من جحور الجهل والضلال أجزاء من مدينة تدمر الأثرية.
لا شك أن الجامعة الأمريكية في بيروت تعرضت لهزات عنيفة على مدى الأعوام الـ153 الماضية وقد صمدت في وجهها جميعا، بل وخرجت أقوى، من بينها ما كنت شاهدًا عليه خلال الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975-1990، لكن لماذا تبدو الأزمة الحالية خطيرة على الجامعة إلى هذا الحد؟ أعتقد أن الأزمة خطيرة على لبنان ككل، وقد تعصف به كبلد عربي مستقل.
إن أزمة الجامعة الأمريكية في لبنان تبدو مالية في ظاهرها، لكن هل يمكن لحملة تبرعات أن تسهم بإنقاذها؟ بالطبع لا، لأن المشكلة في الأوضاع المزرية التي آل إليها لبنان ككل، وأسأل نفسي بالفعل: أين هو دور زعماء لبنان في إنقاذ هذه الجامعة خاصة وأن عدد كبير منهم من خريجها أساسا ومنها نهلوا قيم الحب والعطاء؟
مسكينةٌ أنتِ يا جامعتي، ومسكين أنتِ يا بيروت ويا لبنان، مسكين يا عراق، يا سوريا، يا يمن، يا أرض العراقة والنور، مسكينة أنتِ يا حضارتنا التي ترزح تحت سطوة برابرة العصر، من الداخل والخارج، خفافيش الظلام، وأعداء التحرر والنور والانفتاح، مساكين نحن الذين طال ليلنا بانتظار إشراقة صباح تمسح كل هذا الظلم والظلام عما بقي لنا من زمن على هذه البسيطة، وعن مستقبل أولادنا.