يصادف رجل الأعمال قصصا شيقة وعِبِراً ذات مغزى فيما هو يشق طريقه الصعب والطويل نحو إطلاق الأعمال وتوسعتها، وربما تمر السنين وينسى النتائج المالية والأرباح التي حققها من تلك الأعمال، لكن تلك القصص والعِبر تبقى ماثلة في ذهنه، وإحداها قصة شرائي لبيت “يوسف إسلام” في لندن.
في العام 1980 بدأت بالتوسع في أعمالي بمجال الخدمات الإعلانية في أوروبا انطلاقا من عاصمة المال والأعمال “لندن”، وبدأت العمل هناك من مكتب مشترك في شارع كيرزون تحديدا، لكن في مطلع العام 1982 اتصلت بي مساعدتي وقالت إنه يجب علينا إخلاء المكتب فورا إذ أن صاحب العقار أخذ أمرا من المحكمة بترميم المبنى بالكامل، فطلبت منها البحث عن مكتب آخر قريب في ذات المنطقة.
كان موقع شارع كورزون كان مثاليا بالنسبة لنا لقربه من شارع أوكسفورد، كما أن معظم المناطق التجارية كانت في ضاحية مايفير المرموقة، ومن ناحية عملية، صناعة الأفلام متمركزة في سوهو غير بعيدة عنا، حيث انجزنا الكثير من الأفلام.
لم تكد تمر ساعة حتى اتصلت بي مساعدتي مجددا وقالت “عندي لك خبر جميل، المبنى رقم 27 الملاصق لمكتبنا نفسه معروض للبيع من قبل مالكه المغني الشهير كات ستيفنز والذي أعلن إسلامه وأصبح اسمه يوسف إسلام، وهو يريد التخلص من هذا المبنى بأي طريقة تاركا هذه المنطقة التي اكتشف أنها شديدة الفسق كما يقول”.
في اليوم الثاني استقليت أول رحلة متجهة من البحرين إلى لندن، وتوجهت مباشرة إلى المبنى المنشود، ووصلت بحدود الساعة السادسة مساء. قرعت جرس الباب الرئيسي أسفلا، فأتاني صوت عميق من داخل المبنى قائلا: أنا آسف، أذا كنت هنا لقضاء الليل فالمكان ممتلئ، وليس هناك أي سرير شاغر.
رديت “أنا هنا لشراء المبنى إذا كنتم راغبين ببيعه”، فأجاب الصوت “أهلا وسهلا بك، تفضل إلى الطابق الرابع”.
فُتح الباب كهربائيا، وبدأت بصعود الدرج، وفي كل باب أنظر منه أرى غرف مليئة بالفرشات، يزدحم فوقها ناس من كل حدب وصوب. أدركت ما عناه “يوسف إسلام” بقوله إن المكان ممتلئ. كان المنزل ممتلئا بالفعل، وكل غرفة يقطنها عدة أشخاص. كان مشهدا محزنا، صاحب المنزل قدم المأوى لكل هؤلاء خلال الليل البارد والماطر.
عندما وصلت أخيرا إلى الطابق الرابع، فتح لي الباب بنفسه ووقف بباب غرفته. نظرت إليه بلحيته البيضاء ولباسه الأبيض يرتدي قميصا باكستانيا مع طاقية صغيرة على رأسه. بدا وجهه كملاك. متسامح ومحب بشكل لا يصدق، مع عيون بريئة.
قال “تفضل يا أخي. هل أنت مسلم؟”، قلت له “نعم الحمد لله”، قال “تريد شراء المبنى”، فأجبت “نعم، أريد تحويله إلى مقر عمل، كم تريد ثمنا له؟”، قال “100 ألف جنيه استرليني، ثمن الفروغ”.
كان المبنى عبارة عن ملكية مستأجرة بالنظام طويل الأمد. ولم يبق من مدة الاستئجار سوى 25 عاما. لم يكن بمقدوري الحصول على قرض من البنك لشرائه بهذه المدة القصيرة المتبقية.
قلت “أنا مستعد لدفع 80 ألفا نقدا يمكنك أن تقبضها خلال يوم واحد من بنك البريطاني للشرق الأوسط”، نظر إليّ بتمعن قائلا “أنا لست بمساوم جيد، لكن يجب أن أقول لك إن الرذيلة في كل مكان في هذا المنزل، حتى أن هناك فناء في الخلف تعيش فيه عاهرة سويدية، أعطني 80 ألفا وسوف أنتقل من هذا المبنى رأسا”.
في اليوم التالي قابلنا المالك الأساسي وحصلنا على ملكية المنزل وعقد الاستئجار ونقلنا العقد ليصبح باسمي في المحكمة، ثم عدنا إلى يوسف إسلام، لإبلاغه بأن لديه شهرين لإخلاء المنزل، وقد فعل ذلك بالفعل. طلبت منه توقيع الشيك باسمه القديم (كات ستيفنز) لكنه رفض قائلا “كات ستيفنز لم يعد موجودا بعد الآن”.
الأمر التالي الذي كان عليّ فعله هو معالجة مسألة المستأجرين، وخاصة السويدية المذكورة آنفا، والتي كانت تدير أعمال بغاء من فناء المنزل، واستغرق الأمر ثلاث أو أربع سنوات ودفعنا لها 10 آلاف جنيه استرليني حتى تمكنا من إخراجها. وقد أنفقت 300 ألف جنيه استرليني أخرى لترميم المنزل والفناء، وهذا ما تحوّل إلى “بروموسِفِن – لندن”.
على الرغم من تخليه عن وضعه واسمه السابق، تلقينا على مدى سنوات شيكات من مختلف أنحاء العالم موجهة لكات ستيفنز، وكنا نعيد إرسالها إليه. التقيت به مرة وسألته عن هذه الشيكات، قلت له “لا زلت تحصل على الأموال باسم كات ستيفنز، ألا تمانع ذلك؟”، فرد “هذا جزء من الجانب العملي في الحياة”.
في هذه الأثناء كان قد اشترى منزلا في هامبستيد وتابع توفير المأوى كبيت للشباب لكل من هو مسلم من مختلف أنحاء العالم، من المحتاجين لإمضاء ليلة أو أكثر.
المنزل 27 كورزون ستريت أصبح أول منزل أشتريه في لندن وتحول إلى منزل لنا، نحن كعائلة وموظفين استخدمناه في كل مرة سافرنا فيها إلى لندن. خصصنا شقة من غرفة نوم واحدة في الطابق الرابع للسكن. فيما تحول باقي المبنى إلى مكاتب لنا. شقيقتي بارعة بدأت عملها كصحفية مستقلة من هناك.
بقينا في 27 كورزون ستريت بين عامي 1983 و1995. كان منزلا للذكريات والنجاح، التقيت وتعرفت في هذا المكان على أشخاص بالغي الأهمية بالنسبة لي، كما أنه شهد أحداثا شخصية مهمة، فابني كريم عاش هناك في محاولة للتعلم كيف يعتمد على نفسه بنفسه، وأبناء شقيقتي بارعة كبروا وقضوا إجازاتهم هناك. لو كان باستطاعة الجدران الكلام لروى منزل 27 كورزون ستريت قصصا كثيرة عن الحياة والحب والخسارة والربح، عن الضحكات والدموع.
أما يوسف إسلام فقد انقطعت أخباره عني، لكني سمعت أنه لا زال يصدر أناشيد دينية حتى فترة قريبة، وهو يشغل منصب رئيس مؤسسة الأكاديميين المسلمين، ولا زالت لديه أنشطة خيرية داخل بريطانيا وخارجها.