لقد دُهشِت بإعلان الملياردير الأمريكي بيل غيتس تنحيه عن منصبه كرئيس لمجلس إدارة شركة مايكروسوفت التي أسسها لتصبح إحدى أكبر شركات تقنية المعلومات والبرمجيات حول العالم، وذلك حتى يتمكن من التفرغ لمتابعة مشاريعه وأنشطته الخيرية حول العالم، هذا الإعلان أكد لي مرة أخرى أن الإنسانية لم تمت بعد.
غيتس هو واحد من بين الذين اشتهروا بالعطاء الإنساني، ولدينا أيضا ألفريد نوبل، مخترع الديناميت، الذي كرس الجزء الأكبر من ثروته لتأسيس جوائز نوبل التي تمنح سنويا لأشخاص قدموا ما يفيد للبشرية الإنسانية، والملياردير الصيني «يو بينيان» الذي تبرع بثروته البالغة ملياري دولار للفقراء، والشيخ سليمان بن عبدالعزيز الراجحي صاحب مزرعة النخيل في السعودية التي تمثل أكبر وقف خيري على كوكب الأرض، والذي قرر التخلي عن نصف ثروته للجمعيات الخيرية، وغيرهم الكثير.
لكن ما يميز غيتس هو عدم اكتفائه بدفع الأموال للتبرعات، بل انخراطه بشكل كامل بالأعمال الخيرية الإنسانية، فقد اختار مواجهة ومعالجة بضع أصعب التحديات في العالم من خلال تركيزه على نشاطات تتعلق بالصحة العالمية، والتنمية، والتعليم، ومعالجة تغير المناخ، وغير ذلك من القضايا الإنسانية الأكثر إلحاحا.
وعندما رأيته يتكلم ويحاضر مؤخرا حول فيروس كورونا لمست فيه تواضع الحكيم المدرك والعارف، وأنه ملم بالمواضيع من جميع جوانبها، إنه لا يتكلم كطبيب أو عالم أوبئة وفيروسات، وإنما كإنسان منحه الله من العقل والحكمة والمال ما جعله قادرا على خدمة الإنسانية إلى أقصى درجة.
شاهدت، وربما شاهد الكثيرون منكم، محاضرة لبيل غيتس ألقاها قبل نحو أربعة أعوام، يقول فيها: «عندما كنت طفلاً، كانت الكارثة التي كنا قلقين بشأنها هي الحرب النووية. لهذا السبب كان لدينا مثل هذا البرميل في الطابق السفلي، مليء بعلب الطعام والماء. عند حدوث الهجوم النووي، من المفترض الاحتماء في الطابق السفلي، والأكل من محتويات البرميل. أما اليوم فأعظم كارثة عالمية لا تبدو كهذه. بل، تبدو مثل هذا. إذا كان أي شيء سيقتل أكثر من 10 ملايين شخص في العقود القليلة القادمة، فمن المرجح أن يكون فيروسًا شديد العدوى وليس الحرب».
لندع إذًا هذه العقول الكبيرة المبدعة ترسم لنا معالم طريق النجاة من كارثة كورونا، بدل أن نتخبط في حلول غير مجدية، نغلق هذا البلد ونترك ذلك مفتوحًا، نعمد هنا نهج العزل الكامل وهناك نهج ما يسمى «مناعة القطيع»، نعطي هذا الدواء هنا ونمنعه هناك.
غيتس قال إن اللقاح هو السبيل الوحيد لعودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل انتشار الوباء، مضيفا أنه من الممكن تطوير لقاح مضاد لفيروس كورونا المستجد خلال 18 شهرا، لكن ذلك قد يتطلب تقديم تنازلات، منها ما يتعلق باختبارات السلامة، وأشار إلى مؤسسته في تمويل الأنشطة البحثية والتنموية، وأن العالم بأسره يعمل على تطوير اللقاح، وهو الأمر الذي قد يكون الأكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
في الواقع أنا أنظر بعين الشفقة لأولئك الذين يقولون إن بيل غيتس متورط في مسألة فيروس كورونا، ويقولون إن تنبؤاته حول ظهور هذا الفيروس إنما هي مخطط مدروس كي يستثمر في اللقاحات ويجني المزيد من المليارات، وفي الواقع أنا أعتبر سبب ذلك هو صدمتهم بمدى عبقرية هذا الرجل وقدرته على استشراف المستقبل.
أن تتبرع بالمال شيء ممتاز، ومهم جدا، ولكن أن يقدم الإنسان على التبرع بكل ما يملك، بأموال جناها على مدى عقود طويلة، نتيجة عمل شاق وإدارة جيدة وتفكير حكيم، فهذا أمر يستحق الإشادة والإعجاب.
بل غيتس أيضا لم يرث ثروته التي تبلغ أكثر من مائة مليار دولار أمريكي، بل جناها عن طريق الابتكار والخلق والابداع، وبالتحديد عن طريق تطوير برمجيات للكومبيوترات الشخصية، ففي العام 1987 أصبح بيل غيتس، وهو في عمر 31 عامًا، أصغر ملياردير عصامي في العالم، ومنذ العام 2004 كرَّس معظم وقته لمؤسسة بيل وميلاندا الخيرية، التي أسسها مع زوجته، وهي مؤسسة معنية بمواجهة الفقر والأمراض المستعصية، فضلا عن إتاحة الوصول لأجهزة الكمبيوتر حول العالم، وقد حصل الزوجان على لقب رائدي الأعمال الخيرية الأكثر سخاءً في الولايات المتحدة عام 2018، بعد أن تبرعا بمبلغ 4.8 مليار دولار أمريكي لمؤسسات خيرية في العام 2017.
التبرع بالمال والوقت والجهد شيء إيجابي جدا ومطلوب في كل زمان ومكان، لكن أعلى درجات السمو الإنساني تتمثل في التخلي عن التمتع بالدنيا ورغد العيش والتفرغ والانخراط الكامل في خدمة الإنسانية، ومد يد العون لأشخاص في أقاصي الأرض لا يربطك بهم أي شي سوى رابط الإنسانية.
يجب الاعتراف أنه ليس من السهل أبدا القيام بما فعله غيتس عبر التخلي عن مسار حياة عملية ومهنية انخرط فيها الإنسان لعقود، وتمكن بكده وعرق جبينه من بناء أعمال ومؤسسات ناجحة، ووصل إلى قمة المجد والثروة، ثم فجأة يقرر التخلي عن كل ذلك، عن إدمانه اليومي الذي اعتاده على مدى سنوات عمره، ويتفرغ لشيء آخر.
لكن يجب الاعتراف أيضا أن القيمة العليا للإنسان في هذا الحياة هي بما يعطي لا بما يأخذ، فالعطاء سعادة، والعطاء مفهوم واسع لا يقتصر على تقديم المال للمحتاجين، وإنما توفير فرصة عمل لشخص محتاج هو عطاء، وابتسامة في وجه أخ أو موظف هي عطاء، والتخلي عن موقف سيارة لصالح شخص آخر هو عطاء، والمبادرة بالسلام عطاء، لذلك كل منا قادر على العطاء.
لن أختم مقالي قبل الإشارة إلى أشخاص كبار أيضا، باعوا كل شي واشتروا أوطانهم وشعوبهم، مثل سمو ولي العهد الأمير سلمان بن حمد، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، فهؤلاء القادة تمكنوا خلال محنة جائحة كورونا حاليا من إعطاء أروع الأمثلة في خدمتهم لشعوبهم، بعيدا عن أية بهرجة إعلامية، ففي الشدائد تظهر معادن الرجال، فلهم منا جميعا تحية احترام وإجلال.