رب ضارة نافعة

دورسٌ وعبر علينا تعلمها كأشخاص ومجتمعات وحكومات ودول من محنة فايروس كورونا، وإن قدرتنا على الاستفادة من الدروس القاسية هي ما يجب أن يميزنا كبشر تستخلص العبر من الماضي ونرصد الحاضر لنرسم مستقبل أفضل.

لقد كنَّا مشدوهين أمام التطور الصيني والأمريكي والأوربي في التنقية والصناعة والفضاء وغيرها، لكن ظهر فايروس صغير جدا خلط كل الأوراق وقلب الدنيا رأسا على عقب، وشل الاقتصاد والحركة حول العالم، وجعل كل خطط الانتعاش الاقتصادي في مهب الريح، وذهبت أحلام النمو أدراج الرياح.

إنها قدرة الله علينا كبشر، والتي تتجلى في كل ما يحيط بنا، وفي أنفسنا، وما أشبه الإنسان اليوم الذي يخشى هذا الفايروس بالإنسان القديم الذي كان يسكن الكهوف ويخشى من الحيوانات المفترسة، فالمعادلة هنا واحدة حتى وان اعتقدنا نحن البشر أننا بتنا نتملك زمام القوة ومفاتيح العلم والمعرفة، فيما يخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم بأنه “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”.

لا شك أن الإنسان تمكَّن من تحقيق فتوحات علمية هائلة، وفي مجال الطب والصحة حدثت ثورات في مجالات مثل العلاج بالخلايا الجذعية والجينوم والطب الشخصي وغيرها، ولكن يبدو أننا كلمنا صعدنا إلى مرحلة أعلى وجدنا تحديات من نوع مختلف.

هذا الفايروس الذي يشبه التاج ولذلك سمي كورونا، تربع على عرش الاهتمام العالمي، وأقفل دولا بأكملها مثل إيطاليا التي طلبت من جميع مواطنيها التزام بيوتهم والانعزال حتى عن افراد عائلتهم، وانهارت أسواق الأسهم، وتعطلت حركة السياحة والطيران، والتعليم والمدارس والجامعات، وبات الناس حول العالم يترقبون بارقة أمل في لقاح أو علاج.

إن تعامل الحكومات حول العالم مع تفشي هذا الفايروس بين مواطنيها ومقيمها وزوارها مسألة مهمة جدا جديرة بأن توثَّق، فعندما ظهر الفايروس في الصين وحتى عندما امتد لدول مثل كوريا الجنوبية كنا لا نزال نظن أنفسنا في البحرين والخليج العربي في منأى عنه، حتى صدمنا مع بدء الأخبار التي تحدثت عن اكتشاف أول إصابات بالفايروس في البحرين والكويت والعراق في وقت متزامن تقريبا لمواطنين كانوا في إيران.

ربما الجميع يذكر أن إيران كانت أعلنت حينها عن إصابتين أو ثلاثة بالفايروس، وبعد عدة ساعات أعلنت وفاة تلك الحالات، وفقا لسيناريو رديء جدا وغير مقنع على الاطلاق، لتبدأ بعدها الإعلان عن عشرات ثم بسرعة مئات الحالات المصابة لتصبح ثالث بلد في العالم بعدد الإصابات، وإن تكتم السلطات الإيرانية عن تفشي الكورونا في بلادها ثم الإعلان فجأة عنه جعل السلطات المعنية في دول الخليج العربي بما فيه السلطات الصحية تستنفر جميع إمكانياتها.

بالمقابل رأينا كيف أن البحرين اتخذت جميع الاستعدادات اللازمة للتعامل مع هذا الفايروس، ثم رأينا البحرين ترسل طائرات لإعادة مواطنيها من إيران، في مشهد يؤكد اهتمام الدولة بجميع مواطنيها دون استثناء أو تمييز، وتقدم لهم خدمات الإرشاد والوقاية والعلاج، بل سمحت لهم بالجلوس في المنزل لـ 14 يوما كإجازة مدفوعة الأجر للموظفين منهم، وتولت السلطات مسؤولياتها عن جدارة، فوزارة التجارة مثلا منعت احتكار الكمامات وغيرها، فيما تولت وزارة شؤون الإعلام مهمة إطلاع المواطنين والعالم بشفافية حول انتشار فايروس كورونا في البحرين.

البحرينيون أيضا يتعاملون مع الوضع المستجد بمسؤولية كبيرة، لا تنتابهم مشاعر الذعر من الفايروس، لكنهم لا يستهترون به في الوقت ذاته، يتابعون الإرشادات الحكومية ذات الصلة ويطبقونها، ومن الأمثلة على ذلك أننا لم نشهد في البحرين حالات تفريغ السوبرماركت من المواد الغذائية كما يحصل الآن حتى في أمريكيا ذاتها.

ربما فكَّر أحدهم في بداية الأمر بالسفر خارج البحرين قاصدا دولة أخرى لا ينتشر فيها الفايروس، ولكن الآن بعد أن أثبتت البحرين جدارتها بإبقاء الأوضاع تحت السيطرة صار المواطن والمقيم يحمد الله على نعمة وجوده في البحرين، وليس حتى في بلد أوروبي مثل إيطاليا أو ألمانيا أو فرنسا، أو حتى في الولايات المتحدة ذاتها.

ربما يكون من حسن حظ البشرية أن فايروس كورونا ظهر في دولة مثل الصين وليس في دولة مثل إندونيسيا أو بنغلاديش أو فنزويلا أو نيجيريا مثلا ذات الإمكانيات الضعيفة، أما الصين أثبتت قدرتها على السيطرة على هذا الفايروس، وبدأت أعداد الإصابات الجديدة تقل عن عدد المتعافين، وهذا ما بدا للعالم وكأنه بصيص ضوء في نهاية النفق.

من الدروس أيضا أن كثيرا من الناس لا يبالون بصحتهم، ولا يصغون إلى النصائح العامة المتعلقة بالنظافة العامة وتجنب مخالطة المرضى وأهمية الغذاء السليم وساعات النوم الكافية وممارسة الرياضة، ثم يأتي فايروس كورنا لينبه الناس إلى أهمية تقوية مناعتهم عن طريق اتباع نمط حياة صحي، وأن العقل السليم في الجسم السليم.

كما أن الضائقة الاقتصادية الشديدة التي يمر بها العالم نتيجة التأثير المدمر لفايروس كورونا على الاقتصاد، ينبهنا إلى أهمية ادخار القرش الأبيض لليوم الأسود، على الصعيد الشخصي وصعيد الاسرة والمؤسسات والشركات والحكومة أيضا، فثقافة الادخار وترشيد الأنفاق يجب أن تكون منهم يومي في حياتنا جميعا.

أنا واثق من إن الإنسان سيتغلب على فايروس كورنا في نهاية المطاف، لكن الفايروسات والمحن والمصاعب والنزاعات والحروب لن تختفي نهائيا من العالم، بل ستعود إلينا بين الفينة والأخرى وفقا لسيناريوهات ربما يصعب حتى تخليها، والمهم الآن هو أن نكون قد استوعبنا الدرس جيدا حول أن عالمنا قرية صغيرة متشابكة بالفعل، نعيش فيها معا كالأشقاء أو نهلك جميعا كالحمقى.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s