درس آخر من الصين

ما أن كتبت مقالي الأسبوع الماضي بعنوان “الصين وما أدراك ما هي الصين” تحدثت فيه عن عظمة هذا البلد فيما هو يشق طريقه للتربع على قمة العالم، حتى ظهرت أخبار حول حالات الإصابة بالسلالة الجديدة من فايروس كورونا في مدينة ووهان الصينية، وهو ما شكل تحديا كبيرا واختبارا جديدا لقدرة الصين على التعامل مع هذا النوع من الكوارث الطارئة.

وفي الواقع لا يسعني إلا أن أسجل مرة أخرى إعجابي بهذا البلد الآسيوي العملاق، وأن أنظر بعين الإعجاب والاحترام للآلية التي تتعامل بها السلطات الصينية مع فيروس كورنا، واعتقد لو أن هذا الفايروس ضرب دولة أخرى مثل الهند أو تركيا أو اندونيسيا أو حتى الولايات المتحدة ذاتها لكنت الأمور خرجت عن السيطرة وأصبح الفايروس وباء عالميا.

بسرعة كبيرة، واحترافية وفاعلية، تعاملت الصين مع المشكلة، وفورا قامت بعزل 20 مليون مواطن داخل مدنهم التي سجلت إصابات عديدة في الفايروس. هل تخيلتم معي هذا العدد المهول؟ 20 مليون إنسان، يعني ما يوازي مجموع مواطني الدول الاسكندنافية مجتمعة: السويد والنرويج والدنمارك وفنلدنا وأيسلندا، أو مجموع عدة مواطني دول عربية مثل لبنان والأردن والبحرين والإمارات والكويت معا!.

لقد شاهد معظمنا أيضا كيف شرعت الصين في بناء مستشفى ضخم جديد خاص بمرضى كورونا يتسع لنحو 1000 سرير، وتبلغ مساحته 25 ألف متر مربع، وسيتم بناؤه في غضون عشرة أيام. في الواقع ومن خلال خبرتي في مجال التطوير العقاري -في منطقتنا على الأقل- اعتقد أن هذا انجاز مذهل بالفعل بكل المقاييس.

العلماء الصينيون انكبوا بدورهم على دراسة الفايروس الجديد، وها هم قد أوشكوا بالفعل على اكتشاف علاج فعال له، وهنا نذكر كيف لا زالت دول العالم تسعى لاكتشاف علاج فعال لفايروس الإيدز بعد نحو أربعين عاما على اكتشاف هذا المرض.

أنا واثق تماما أن الصين ستجتاز هذه المحنة، وتنقذ نفسها والعالم من هذا الفيروس، بل وستخرج منها أقوى، وأكثر استعدادا لمواجهة تحديات مشابهة، وسيراكم المسؤولون الصينيون والقطاع الصحي الصيني تجارب ثرية في التعامل مع الكوارث من هذا النوع، وستكون هذه التجارب جديرة بالدراسة والتطبيق في مختلف دول العالم.

لن يتمكن هذا الفايروس من النيل من جسد المارد الصيني، وستواصل بكين عمليات البناء التنمية والتوسع في مختلف المجالات التنموية والاقتصادية والصناعية والخدمية والعسكرية، وستتربع في غضون خمس إلى عشر سنوات على قمة العالم، بعد أن أثبتت حاليا أنها قطب موازي للقطب الأمريكي.

توماس فريدمان، كاتب عمود شهير فى صحيفة نيويورك تايمز، نشر مقالا بعنوان “السنوات السبع للصين والولايات المتحدة”، وكان هذا المقال بمثابة الصدمة للبيت الأبيض حيث كتب قائلا: “عندما جلست فى مقعد الاستاد الصيني بعد حضور مراسم الاحتفال المذهلة فى ختام أوليمبياد بكين واستمتعت بالعروض السحرية لآلاف من الراقصين والمغنين الصينيين، لم أستطع إلا أن أتذكر السنوات السبع الماضية. تجارب مختلفة فى كل من الولايات المتحدة والصين، فى حين كانت الصين مشغولة بمشاريع البنية التحتية المختلفة، كانت الولايات المتحدة مشغولة بالتعامل مع القاعدة (الإرهابيين)، لقد تم بناء أفضل الملاعب ومترو الأنفاق والمطارات والطرق والحدائق فى الصين فى الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تهتم بتصنيع أفضل أجهزة الكشف عن المعادن ومركبات «همر» العسكرية والطائرات بدون طيار…

ويضيف الكاتب قائلا: «أعتقد أن الصين، باعتبارها دولة حديثة، قد قبلت المفاهيم الرئيسية الحديثة للسيادة الوطنية وحقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن خصائص الحضارة الصينية المختلفة تجعلها فريدة من نوعها. واحدة من خصائص نموذج التنمية فى الصين هو أن تأثير التعليم والابتكار بالإضافة إلى عدد السكان الضخم يؤثر على الصين والعالم.

وأنا أرى أنه حتى أن الحرب التجارية التي شنتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الصين لم تكن مؤذية للصين فقط، بل للاقتصاد العالمي ككل، وقد اتخذت الصين مواقف حكيمة ومتأنية في هذه الحرب، ولم تستخدم أسلحتها مثل التضييق على الشركات الأمريكية، وعزل الولايات المتحدة تجاريا عبر تفعيل شراكات تجارية تفضيلية مع الاتحاد الأوربي وآسيا وأمريكا اللاتينية، وخفض قيمة اليوان لإغراق العالم بصادرات صينية رخيصة، والحد من أرصدة الديون الأمريكية حيث تحتفظ الصين بديون للحكومة الأمريكية بقيمة 1.17 تريليون دولار.

العديد من الشركات الأجنبية التي تستثمر في الصين لديها شعار وهو أنهم إذا تمكنوا من أن يكونوا «رقم واحد» في الصين فسيكون بمقدورهم تحقيق الأفضل في العالم، وها هي الصين تجتذب الكثير من الاستثمارات الضخمة في السياحة والطيران والسينما والتلفزيون والرياضة والتعليم والطاقة الجديدة ونماذج التحديث والسكك الحديدية عالية السرعة وغيرها، وتستقطب عدد شركات ضخمة أكثر من تلك التي تستقطبها الولايات المتحدة ذاتها.

أما بالنسبة للثقافة فلم يسبب تصادم الثقافات الصينية والغربية على مدى الثلاثين عاما الماضية أن يفقد الصينيون ثقتهم في ثقافتهم، فالشعب الصيني اليوم لا يزال متمسكا بشدة بالثقافة الكونفوشيوسية وغيرها وكل هذا يعكس إعادة إحياء الثقافة التقليدية الصينية، دون أن يعني ذلك سعيه لفرض هذه الثقافة على الشعوب الأخرى.

على الصعيد السياسي هناك من يشكك في شرعية النظام الصيني في ظل نظام سياسي يتبنى الشمولية إلى حد كبير، إضافة إلى التعديل الدستوري مؤخرا الذي أتاح للرئيس الصيني فترات رئاسية غير محددة، لكن أليس الاستقرار السياسي أفضل من ديمقراطية لا تجلب معها سوى الفوضى؟

لا زلت أذكر تلك الدراجة الجميلة التي أهداني إياها والدي عندما كنت صبيا، قال لي حينها بفخر “أكرم: هذه الدراجة صُنعت في بريطانيا، وليس في الصين”. لكن الصين اليوم ليست صين تلك الأيام، فقد تمكنت من الارتقاء بصناعتها حتى باتت تضاهي جودة الصناعات الغربية، مع توفير صناعات رخيصة للمستهلكين ذوي القدرة الشرائية المنخفضة، واستطاعت تحقيق شعارها “منتج في كل بيت وفي كل يد”.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s