الصين وما أدراك ما هي الصين

كل يوم يمر نتعلم دروسا جديدة من الصين، هذا البلد العملاق في كل شيء، في الإرث التاريخي والحضاري، والتنوع العرقي والثقافي، والتعداد السكاني، وفي الإنتاج الصناعي. نراقبه وهو يشق طريقه بصبر وثبات نحو التربع على قمة العالم.
كنت أقرأ عن مدينة تزلج قامت الصين ببنائها مؤخرا لتكون منتجعا دائما للسياح ومحبي التزلج على مدار العام وليس في فصل الشتاء فقط، وستوفر المدينة جميع ما يحتاجه مرتادوها من عناصر ترفيه وجمال بحيث يستطيع المرء أن يمضي شهرا وأكثر داخلها.
هذه المدينة هي نموذج عن المشاريع الضخمة غير المسبوقة عالميا التي تقوم الصين بتنفيذها، والتي تعكس حاضر ومستقبل العملاق الصيني، وتثبت أن الصين هي من سينهي نظام القطب الواحد خلال السنوات القادمة وليس أوروبا أو روسيا أو اليابان أو غيرها.
ربما يستمد زعماء الصين الحكمة من تاريخهم الطويل والدروس والعبر الضاربة في القدم للأسر المتتالية التي حكمت الصين لمئات وآلاف السنين، فهم يدركون أن السيطرة على الناس والتغطرس والحرب تؤذي بلدهم قبل أن تؤذي الآخرين، ولو اختار هؤلاء الزعماء القوة الخشنة طريقا للحصول على ثروات جديدة فربما يتمكنون من ذلك لفترة من الزمن، ولكنهم سيفقدون الاستقرار والتنمية والسمعة الدولية للصين كبلد لا يتدخل في شؤون الآخرين.
وهنا أريد أن أطمأن الجميع وأن أؤكد أن إيران الخمينية لن تتمكن من إعادة بناء الدولة الفارسية مهما فعلت، كما لن تتمكن تركيا الأردوغانية من استعادة الدولة العثمانية، بعد أن أرهقت هاتين الدولتين نفسيهما وجيرانهما في حروب ومنازعات الجميع خاسر فيها.
لقد سجل الاقتصاد الصيني في العام 2019 نموا فاق الستة بالمئة، رغم ذلك جرى اعتبار هذا النمو هو الأضعف خلال الأعوام الـ 19 الأخيرة، وهذا يجب أن يكون أيضا درسا للزعماء الذين يتشدقون بالحرص على جلب الرفاهية والرخاء لشعوبهم، فيما دولهم تسجل تراجعا اقتصاديا كبيرا، وعملتهم الوطنية تنهار، والتضخم يرتفع يوما بعد يوم.
لقد كانت الصين لقرون طويلة قوة عالمية وإمبراطورية عظمى تهيمن على كل جيرانها الآسيويين وتخشاها كل دول العالم، لكنها تراجعت على حساب دول أوروبا الغربية، إلا أن الثورة الشيوعية في الصين في الأربعينات بزعامة ماوتس تونج أعادت إلى الصين مكانتها، لتتمكن بعدها الصين من تجاوز المأزق السوفيتي والخروج من عنق الزجاجة الشيوعية بالمحافظة على هياكل ورموز النظام الشيوعي مع اتباع نظام اقتصادي منفتح على الجميع وخاصة الغرب، فالصين شيوعية متى اقتضت مصلحتها ذلك، ورأسمالية متى رأت مصلحتها في الرأسمالية.
وربما شاهد الكثير منا السيد إيلون ماسك، الملياردير الأميركي والرئيس التنفيذي لشركتي تسلا وسبيس إكس، يرقص مؤخرا في الصين خلال حفل بمناسبة طرح سياراته الكهربائية تسلا من طرازMODEL Y التي تم إنتاجها داخل أحد مصانعه بمدينة شنجهاي الصينية والذي تكلف ملياري دولار، ليعتبر أول مصنع له خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
وكمؤشر للوعي بشأن تنامي الدور الصيني على الساحة العالمية بات تعلم اللغة الصينية في الوقت الحالي يمثل موجة واسعة في مختلف أنحاء العالم، وانتشرت مراكز كونفوشيوس لتعليم اللغة والثقافة الصينية في مخلف دول العالم، بل باتت الدول تشجع طلابها على تعلم اللغة الصينية، ومن المرتقب أن تزاحم اللغة الصينية اللغة الإنكليزية خاصة مع تحول الصين إلى مصدر هام للمعرفة والتكنولوجيا والتجارة.
الفرق الأساسي بين الولايات المتحدة والصين هو أن الأولى لا تتردد بالتهديد أو حتى استخدام القوة في فرض هيمنتها، فيما تستخدم الصين القوة الناعمة، وأحد مظاهر القوة الناعمة الصينية هو طريق الحرير الجديد، والذي يمثل في الواقع طريقا لنظام عالمي جديد، فهذا المشروع لن يغير شكل التجارة العالمية فقط، بل سيقلب موازين القوى عالميا، حيث إنه يتضمن مبادرة الحزام والطريق بكل ما فيها من موانئ وسكك حديدية وطرق سيارة ممولة من شركات صينية تحت إشراف الدولة الصينية، هي إشارة على الدور الذي تريد الصين أن تلعبه على المستوى العالمي.
هذا الطريق يجتاز كثيرا من دول العالم، وقد بادرت الكويت لحجز مكانة بارزة لها كأحد أبرز محطات هذا الطريق في الخليج العربي، وتعزيز مكانتها كمركز مالي وتجاري وثقافي دولي من خلال الموقع الجغرافي المتميز الذي تتمتع به.
من أدوات الصين الناعمة في التوسع خارج حدودها أيضا اعتمادها على سياسة تقديم الديون للدول الأخرى بتسهيلات كبيرة ودون تدخل بالمقابل في شؤونها الداخلية، كما يحدث مع دول قارة إفريقيا، حيث تشير الأرقام إلى أن الصين أقرضت أفريقيا ما مجموعه 125 مليار دولار بين العام 2000 و2016.
يجب القول إنه كثيرا ما تتعرض بيجين للانتقادات بسبب سياستها تجاه تايون، وهونغ كونغ، وسياسات تحديد النسل، والتعامل مع بعض الأقليات، وهي انتقادات ربما تكون في محلها، ولكن ربما أيضا يتطلب حكم بلد متنوع الأعراق والأقاليم، يقطنه أكثر من مليار إنسان، شيئا من الحزم والشدة التي يرافقها ارتكاب أخطاء، ولا شك أن فشل الدولة الصينية في ضبط هذا العدد الهائل من البشر سيمثل مشكلة للعالم أجمع.
لنتعلم جميعا من التجربة الصينية، ولا ضير أن نضع يدنا في يد الصين لنستفيد منها بقدر ما تستفيد منا، فبلادنا جميلة وفيها الكثير من الخيرات، وما ينقصنا هو توجيه مواردنا نحو البناء والتنمية، والكف عن العبث باستقرارنا ومستقبلنا تحت ذرائع دينية أو إيديولوجية أو عرقية عقيمة لم ولن تجلب سوى الموت والدمار. هذا هو الطريق لننعم معا بمشاريع بنية تحتية عظيمة مثل مدينة التزلج الصينية.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s