ما خُلِقنا تُعساء

رغم التقدم الذي أحرزته البشرية في مجال علم النفس والاجتماع والفلسفة والبيولوجيا والذكاء الصناعي وغيرها، إلا أن الإنسان لا زال تائها في معرفة مكنونات ذاته، يبحث عن شيء ما يعطي لحياته معنى، يعتقد أن ذلك ربما يكون في النجاح الأكاديمي أو المهني أو المال والجاه والسلطة، أو مجرد إشباع الرغبات الأساسية، يستهلك طاقته وأيام عمره يطلب المزيد والمزيد من كل ذلك.

لكن دراسة أُجريت في جامعة هارفارد الأميركية على مدى نحو ثمانين عاما توصل باحثون في محصلتها إلى ما يعتقد أنه أهم أسباب السعادة، فبحسب الدراسة التي تعد واحدة من أطول الدراسات التي تشمل البشر في العالم، فإن “الأصدقاء الجيدين” أكثر مدعاة للشعور بالسعادة، مقارنة بالمال والنجاح.

طالما الموضوع بهذه البساطة، لماذا لا نطرح على أنفسنا سؤالا بسيطا: لمَ نُحمِّل أنفسنا ما نطيق وما لا نطيق من ضغوط عمل، وخشية على المستقبل؟ طبعا هذا لا يعني الركون إلى الكسل والبقاء فيما يسمى بـ “دائرة الراحة”، بل علينا الحرص على العمل والإنتاج، ولكن دون أن نتحول إلى مجرد آلات بقلوب معدنية باردة.

الإنسان هو المخلوق الذي كرَّمه الله تعالى على هذه الأرض، وميَّزه عن غيره بنعمة العقل، وجعل منه كائنا اجتماعيا قادرا على التواصل ليس مع أقرانه فقط بل مع الأجيال السابقة واللاحقة أيضا من خلال الكتابة والتراث وغيرها، وكل الديانات السماوية قامت على المحبة، وكذلك الديانات الوضعية، واحترام الإنسان لأخيه الإنسان، وتصدرتها بشكل أو بآخر وصايا من قبل لا تقتل، لا تسرق، لا تسلب، لا تكذب، أكرم أمك وأباك..، وغيرها.

السؤال السابق يقودنا لسؤال آخر، هو لماذا تنشب النزاعات والحروب بين الأمم؟ هل ستجعل هذه الحروب شعوب أطرافها أكثر سعادة أم أكثر بؤسًا وشقاءً؟ إن أشخاصا طامحين حقودين يعتقدون أن أهدافهم لن تتحقق إلا بسحق الأشخاص الآخرين في مكان آخر، وفي الحقيقة أنا لا أعرف دراسة قالت إن المجتمعات تصبح أكثر سعادة عندما يقودها مجانين حرب يجرونها إلى ويلات الصراع والدمار تحت شعارات التحرر والتوسع والقضاء على الأمم الأخرى.

لكن كيف يذكر التاريخ الآن أشخاصا مثل هولاكو وإيفان الرهيب وهتلر؟ هل كانوا بناة دولة أم دكتاتوريين قتلة تسببوا في الويلات لشعوبهم ولعنهم التاريخ؟. إن حركة التطور البشري طبعا لا تتوقف عند تلك الأسماء، فلكل زمان دولة ورجال، وطغاة ودمويين أيضا، وهذا ما نشهده الآن في طموحات دول مثل إيران وتركيا تسعى لمد نفوذها خارج حدودها، وإن كان ذلك على حساب موت آلاف الأبرياء.

بالمقابل تبرز البحرين كدولة صغيرة جغرافيا، لكنها تمكنت من بناء نموذج سلام يصلح للتعميم عالميا، عندما تمسكت بحقها في بناء قوة ردع، وتعزيز شراكات استراتيجية، لكنها لم تعتدي على أحد، بل التلفت إلى البناء الداخلي وجلب الرخاء والسعادة لمواطنيها ومقيميها، لذلك عندما تسير في كثير من مناطق البحرين ترى بريطاني أو ألماني أو أمريكي وقد اختار أن يتقاعد ويمضي بقية حياته بسلام في هذا البلد الوادع: البحرين، حيث يتمكن بسهولة من نسج علاقات وبناء صداقات راسخة تحدثت عنها دراسة جامعة هارفرد التي اشرت إليها في بداية المقال.

هذه الدراسة بدأت في العام 1938، في ذروة الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم وعرفت باسم “الكساد الكبير”، أثبتت وجود رابط قوي بين العلاقات بالأصدقاء والسعادة، وما يترتب على ذلك من تحسن الحالة الصحية، وشملت الدراسة أسئلة عن الحياة العامة، بما في ذلك الحالة الصحية والمسيرة المهنية والزواج، وتوصلت إلى أن الأصدقاء الجيدين لعبوا دورا في حماية الناس من التدهور العقلي والجسدي، مقارنة بالطبقة الاجتماعية ومستوى الذكاء.

وإن الاكتشاف المفاجئ هو أن علاقاتنا وسعادتنا لديها تأثير قوي على صحتنا أيضا، فالاعتناء بالجسد مهم، لكن الاعتناء بالعلاقات نوع من الاهتمام بالنفس أيضا، وعلينا كبشر أن نحدد أولوياتنا، ففي عالم اليوم بات تحديد الأولويات من الأمور المعقدة، فالحفاظ على العمل أو البيت أو ربما حتى مجرد رسالة بريد إلكتروني مزعجة قد تشكل أمورًا بالغة القلق للناس.

ركزت دراسة هارفارد على النواحي الجسدية والنفسية، لمجموعتين من السكان، هم 456 رجلاً عاشوا في بوسطن في الفترة من 1939 إلى 2014 (فيما يعرف بدراسة المنح)، ومجموعة ثانية هم 268 من الخريجين الذكور من صفوف هارفارد للفترة من عام 1939 -1944 (فيما يعرف بدراسة غلوك)، ونظرًا لطول فترة البحث فقد تطلب أجيالًا من الباحثين لاستخلاص النتائج المطولة، وذلك منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية.

وإن الشيء الذي يفوق كل الأشياء الأخرى في الأهمية هو العلاقات الجيدة حيث إن أوضح رسالة نتلقاها من هذه الدراسة هو أن العلاقات الجيدة هي التي تجعلنا بصحة حسنة وسعداء في الحياة، فالسعادة لا تتعلق بكمية الأموال في حسابك البنكي، أو مساحة البيت الذي تقيم فيه، أو عدد الرحلات التي تقوم بها سنويا حول العالم، فالأهم من كل ذلك هو أن أكبر مؤشر فعلي للسعادة في حياة الإنسان هو الحب والإلفة وحديث مريح مع صديق صدوق، فالأمر لا يتعلق بعدد الأصدقاء، إنما مدى العهد والوفاء في العلاقات.. فمدى العلاقة الوثيقة هو الحكم.

توضح الدراسة أن وجود شخص يعتمد عليه يساعد على استرخاء الجهاز العصبي، ويساعد عقلك في أن يعيش بوضع صحي لفترة أطول، ويقلل من الألم العاطفي والجسدي، كما أن البيانات جاءت واضحة للغاية، بأن أولئك الذين يشعرون بالوحدة هم أكثر عرضة لرؤية تدهور صحتهم البدني في وقت مبكر ويموتون أصغر سناً.

وهكذا، فإنه مثلًا قد تجد الحب وتلك العلاقة المنشودة، لكنك تعاني فجأة من صدمة مثل فقدان الوظيفة، أو فقدان أحد الوالدين، أو فقدان طفل، ولا تعرف أن تتعامل مع هذه الصدمة، فإن هذا يقودك في نهاية المطاف إلى مواجهة تدفع بالحب بعيدًا، وهنا تظهر ضرورة القدرة على تحديد الأولويات كذا القدرة على معالجة التوتر والمشاعر المفاجئة.

كل ذلك يعني أنه ربما تحصل على الأموال التي تريدها، وحياة مهنية ناجحة، وتكون في صحة بدنية جيدة، ولكن بدون علاقات محبة، لن تكون سعيدًا.

 

*رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسيفن القابضة

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s