تتصارع الجماعات والشعوب والأمم منذ فجر التاريخ وحتى الآن على الثروة بمفهومها الواسع الذي يشمل فيما يشمل الأراضي والغنائم والموارد الطبيعية والأسواق، إلا نحن العرب، نتصارع في معظم الأحيان بل ونسفك دماء بعضنا البعض دفاعا عن الطائفة والمعتقد وطلبا للثأر وإثباتا للرجولة وإذلالا للآخرين!.
هل سمعتم بحروب “البسوس” و”الفجار” و”بعاث”؟ إنها سلسلة من أطول الحروب التي عاشها وخاضها العرب في الجاهلية، إضافة إلى الحرب الشهيرة بين قبيلي عبس وذبيان والتي نشبت بسبب أن حصانا يسمى “داحس” سبق فرسا تسمى “الغبراء”، فاشتعلت حرب “داحس والغبراء” شاركت فيها قبائل عربية أخرى مثل طيئ وهوازن، وأزهقت أرواح كثر من جميع الأطراف على مدى أكثر من أربعين عاما.
هذه الحروب لا زالت تُشنُّ حتى يومنا هذا ليس من أجل حصان وفرس، بل ربما من أجل –أعزكم الله- حمار على هيئة بني آدم، يخرج عبر شاشات التلفزة ويحشد خلفه طائفته أو أبناء منطقته أو مواليه، ويشحن صدورهم بالحقد والبغضاء تجاه أبناء جلدتهم، ويغدق عليهم العطايا، ويعدهم بالزعامة، وربما الجنة، ويدفع بهم إلى ساحات الموت المجاني.
التاريخ يخبرنا عن حروب كثيرة خاضتها أمم وأقوام كثيرة، من بينها حروب دينية كتلك التي شهدتها أوروبا في عصور الظلام، إضافة إلى حروب طاحنة خاضها الإغريق والرومان وغيرهم، وصولا إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكن العالم هناك تعلم الدرس جيدا، وأدرك أنه لا مفر من تقبل الأخر، والتعايش معه، وبل والعمل والتوحد من أجل تحقيق مكاسب مشتركة لكل طرف ربما تفوق المكاسب التي يحققها طرف من حربه وانتصاره على الطرف الآخر.
إيران، التي تقدم نفسها على أنها دولة إسلامية قامت بناء على ثورة لنصرة المظلومين، لكنها لم تسهم إلا في زيادة الظلم والفقر لعموم الشعب الإيراني، وإذا كان في “إيران الشاه” طبقة ثرية وأخرى متوسطة وثالثة فقيرة، فإنه في “إيران الثورة” بات الجميع سواسية في الفقر، وانساق الملالي هناك خلف الدعوات الغوغائية لـ “محاربة الشيطان الأكبر وإزالة الكيان الصهيوني وتحرير القدس”، وها هم اليوم يهددون قادة حركات الاحتجاج على رفع أسعار الوقود بالإعدام، نعم: الإعدام!.
لقد باتت أربع عواصم عربية تحت سيطرة إيران بشكل مطلق أو شبه مطلق، وهي بغداد وصنعاء وبيروت ودمشق، ونشطت الميلشيات الإيرانية على امتداد أراضي تلك الدول، بل وصلت أصابع التدخل الإيراني إلى دول مثل السودان والصومال ونيجيريا، ولكن ما الذي حققه هذا التوسع لإيران وللشعب الإيراني؟ لم يجلب للجميع ولشعوب الدول التي تدخلت فيها إيران سوى المزيد من الفقر والويلات.
الجهاد والمقاومة مصطلحين رائعين جدا، بل ومقدسين، ويجب أن يبقيا في نفوسنا ونفوس أبنائنا طالما بقي هناك طامعين أجانب في دولنا، ولكن مع الأسف تم مصادرة هذين المصطلحين من قبل جماعات طائفية لا تحمل مشاريع بناء دولة، وجرى إفراغ المصطلحين من المعنى الحقيقي لهما.
أعظم جهاد هو جهاد النفس، وأعظم مقاومة هي مقاومة الكسل والفشل، ونجاح الدول هو محصلة ومجموع نجاحات أفرادها الذين ينتظمون في رؤية أو مشروع تنموي وطني شامل، يشمل بناء جيش يضع مصلحة الوطن بجميع مدنه ومكوِّنات شعبه فوق كل اعتبار، ويضمن في الوقت ذاته رفاهية جميع المواطنين وحصولهم على خدما صحة وتعليم وإسكان وفرص عمل بأقصى درجات الشفافية والمساوة المتاحة.
هؤلاء المواطنين، المثقفين المتعلمين المبادرين، هم الذين سينهضون بوطنهم، ويجاهدون ويقاومون الاستعمار، الاستعمار الذي يعود إلينا دائما بأشكال مختلفة، فمن السذاجة التفكير بأن الدول “الاستعمارية” الكبرى لا زالت تفكر بنهب ثرواتنا من خلال الاحتلال العسكري المباشر كما كانت تفعل منذ خمسين أو مئة عام، بل الاستعمار الآن ثقافي وفكري واقتصادي، يدخل إلى بيوتنا وجيوبنا رغما عنا أو عن طيب خطر، لا فرق، فيما نحن لا زلنا مشغلون في الجدال حول “جنس الملائكة” كما يقال، وهل الملائكة ذكورا أم إناثا، ونفتعل حروبا مع بعضنا البعض من أجل ذلك.
الشركات الأمريكية والصينية والبريطانية تستعمرنا وتأخذ –إن لم نقل تنهب- ثرواتنا ومدخراتنا برضانا، فمن خلال الهاتف النقال الذي يحمله كل منا تجني هواوي الصينية وسامسونج الكورية الجنوبية وآبل الأمريكية أرباحا طائلة من مختلف المستخدمين حول العالم، وكذلك يفعل موقع أمازون، وفيسبوك، وأفلام هوليود، ومنتجي ألعاب الفيديو، وشركات البرمجة وبناء التطبيقات وحماية الملكية الفكرية حول العالم. وهذا ما بات يعرف بـ “خلل الميزان التجاري في البضائع الرقمية”، وعلى هذه الأسواق تشن الحروب الناعمة والخشنة اليوم.
حتى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أدرك حجم الخطأ الذي ارتكبه عندما قرر معاقبة شركة هواوي الصينية، فتراجع عن ذلك. لكن في الوقت ذاته نرى أن الحروب التجارية التي أشعلها ترمب مع الصين واليابان والاتحاد الأوربي وغيره أثرت سلبا على النمو العالمي ككل، وهي إن كانت تحقق مكاسب آنية على المدى القريب للاقتصاد الأمريكي، إلا أنها ستضر بزعامة أمريكيا للعالم على المدى المتوسط والبعيد.
عندما أفكر في كل ذلك، وارى مشروع الصين في بناء طريق الحرير التجاري، ومشروع ألمانيا في تحويل فرانكفورت إلى مركز مالي عالمي بديلا لمدينة لندن بعد بريكست، ومشروع روسيا في الترويج لسلاحها حول العالم، أتحسر على أحوالنا كعرب لا زالت تتنازع دولنا حروب داحس والغبراء، ولا زالت طريق نهضتنا وأخذنا لمكانتنا التي نستحق بين الأمم مظلمة غير واضحة المعالم، هذا إذا كانت هناك طريق من الأساس.