من ضمن التعليمات التي يزود بها المضيفون ركاب الطائرة في كل رحلة أنه في حال انخفاض الضغط داخل المقصورة لسبب أو لآخر ستتدلى كمامات الأوكسجين من السقف، وفي هذه اللحظة عليك كراكب يصطحب أطفاله أن تضع تلك الكمامة على أنفك أولا، ثم على أنوف أطفالك. لكن هل يعقل أن أنقذ نفسي قبل أطفالي؟ نعم، هذا حول الحل المنطقي والعقلاني، لأنك إذا لم تنقذ نفسك لن تتمكن من إنقاذ أطفالك.
هذه الحقيقة صحيحة بالنسبة للأشخاص، وبالنسبة للدول أيضا، فلا يمكن لدولة أن تزدهر إذا لم تضع مصلحتها الوطنية أولا، وقبل أي شي، لا أن يضحي أبنائها بمصالحها من أجل مصالح دول أخرى.
“الفردية” هي كلمة السر التي بنيت عليها الحضارة الحديثة، والواقع يقول: أنا أولا ثم أسرتي ثم عائلتي ثم شارعي ثم مدينتي ثم بلدي ثم إنسانيتي، فلا يمكن أن أفكر في القضايا الإنسانية الكبرى مثل التغير المناخي أو مكافحة العنصرية فيما أنا أتضور جوعا ولا أجد ما يقتات عليه أولادي. وقد قال الشاعر والمسرحي السوري ممدوح عدوان أنه انتسب للحزب الشيوعي لا لشيء سوى لأن مقر الحزب في مدينته كان أقرب إلى بيته وفيه مدفأة يلجأ إليها في ليالي البرد الطويلة.
اليوم يجب أن يفكر لبنان بنفس هذا المنطق، وعلى اللبنانيين أن يفكروا بمصلحة بلدهم قبل أي بلد آخر شرقا أو غربا شمالا أو جنوبا، وكل إنسان يضع مصلحة بلد آخر قبل مصلحة بلده يجب نبذه، فالمشكلة الأساسية تحدث عندما يضع السياسيون مصالح بلدان أخرى قبل مصلحة بلدهم، فيضحون بالوطن والشعب من أجل مصالح دول أخرى، والعلاقات مع الدول الأخرى من هذا المنظور ربما تكون مفيدة أحيانا، لكنها ضارة جدا في الغالب وبكل تأكيد.
العراق أيضا لديه نفس المشكلة، ويتكرر هناك النموذج اللبناني في تقاسم السلطة، لهذا نرى المظاهرات في الشوارع أيضا تطالب بوضع حد للفساد السياسي الذي تمارسه بشكل أساسي قوى سياسية ولائها إيراني أكثر منه عراقي، وتحصل على أصوات الناخبين من خلال استمالتهم بالدين أو المصلحة، ثم تتفرد بنهب ثروات العراق العظيم، وتعتمد في ترسيخ نفوذها في السلطة على إيران أكثر من اعتمادها على الشعب العراقي نفسه.
النظام الحاكم في سوريا يدور في هذا الفلك أيضا، حيث استعان بقوى خارجية مثل روسيا وإيران وحزب الله لحمايته من ثورة شعبه، وها نحن نرى نتائج ذلك، فقد وضع الروس يدهم على أهم المرافق الحيوية في هذا البلد مثل ميناء طرطوس، فيما تقضم إيران الأراضي حول دمشق وفي مناطق أخرى إضافة إلى قطاع الاتصالات، وهكذا يزداد فقر الشعب السوري وتتفاقم معاناته بسبب ارتباط نظامه بأجندات خارجية أكبر منه.
في عصر الانفتاح الإعلامي وشبكات التواصل الاجتماعي بات الشعب أكثر وعيا تجاه الأشخاص الذين يحكمونه طوعا أو قسرا، وبدل أن يعملوا لمصلحته ويرفعوا من مستويات رفاهيته، يعززون التصاقهم بكرسي السلطة من خلال تسليم زمام أمورهم لمشغليهم من خارج الحدود.
أنا في الحقيقة أنظر بعين الغبطة بل والحسد لدول مثل السودان والجزائر وتونس، والتي لا تعاني من أطماع خارجية، ولديها قوى وطنية تتنافس بإخلاص على خدمة شعبها. وليس من العيب أن تنسج تلك القوى مصالح مع دول خارجية طالما أن الهدف الأساسي هو خدمة الوطن والمواطنين.
هناك الكثير الكثير ممن يتكلم بالسياسية في بنان، ولكن قلائل من يتحدثون بالتنمية والأوضاع الصحية والتعليم والعمل، لذلك عندما تجد ثائرا في الشارع يعرض نفسه لخطر الإصابة والاعتقال وربما الموت يجب أن تعرف أنه لم يبق لديه شيئا ليخسره. لقد كفر بالسياسة وبالوعود وبالمستقبل، وأصبحت الحياة والموت عنده سواء.
لبنان بلد الزعامات، والزعيم يحتاج إلى مال لينفق على الأتباع والمريدين، وفي ظل قلة الموارد الداخلية مقابل ارتفاع الطلب على الإنفاق، ترنو عيون الزعيم لخارج الحدود، للمال السياسي الموجود بكثرة في منطقتنا، لكنه مال مرهون بالحصول على الولاء والانصياع، لهذا تتقلب أفئدة وميول وتوجهات هذا الزعيم أو ذاك بتقلب مصالح وأمزجة الممولين، وتصبح مصلحة لبنان ثانوية، وليست أولوية.
لكن العيب في لبنان أنه ليس لدى زعاماته خطة وطنية خالصة متفق عليها من أجل مصلحة لبنان، ويتم تمويلها من داخل لبنان، لذلك فإن تناقض المصالح الإقليمية ينعكس على لبنان، الذي يتحول إلى بلد تصفية حسابات لا ناقة له فيها ولا جمل.
لبنان ليس بلدا فقيرا، ففيه من الموارد الطبيعية الكثير، وهو بلد سياحي بامتياز، وهناك أكثر من عشرة ملايين لبناني حول العالم يحوِّلون الأموال من دول الاغتراب إلى داخل لبنان، لكن لبنان بلد فقير في الإدارة والإرادة، مع كل أسف.
إن التقسيم الطائفي للبنان أبقاه مرتعا للقوى الخارجية ولمؤامرات أجهزة المخابرات العالمية، وعندما رسم الاستعمار حدودا واضحة للطائفية في لبنان كان يعي أنه يصنع دولة فاشلة، دولة طوائف وليس دولة وطنية، وإن توازنات المصالح بين القوى المختلفة في لبنان لا يمكن أن إلا تكون “توازنات رعب” على فوهة بركان ما لبث أن يهدأ حتى يثور مرة أخرى.
ولم تستطع حكومات لبنان المتعاقبة الارتقاء بالدولة وبأحوال الناس وتطوير المصادر وتحسين الأوضاع المعيشية الإنسانية، بل بقيت حكومات توازنات طائفية متخلفة وعيونها دائما على التوازنات وليس على مصالح الشعب.
أرجو ألا يكون الحراك الشعبي في لبنان الآن مجرد “فشة خلق” وتنفيس عن الغضب، وألا تكون الغاية إسقاط الحكومة أو المحافظة عليها، لأن الحكومات اللبنانية كلها مغلوب على أمرها، وكلما سقطت حكومة تشكلت حكومة أخرى بديلة عنها ليست أفضل منها -إن لم تكن أسوأ-، وأرجو أن تتشكل قيادات لبنانية وطنية واعية من داخل هذا الحراك تحمل فكر عدالة اجتماعية ورؤية وحدوية عربية، وأن تستفيد من كون الجيش والأجهزة الأمنية في لبنان مؤسسات متحضرة، وهذه نقطة مهمة جدا، وتصب في صالح المتظاهرين، وفي صالح لبنان ككل،
لنفكر بمصلحة لبنان أولا، لأن ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا ومستقبل أطفالنا مرتبط بهذه البقعة من الأرض، بكل تناقضاتها ومتاعبها وشموخ أرزها وصلابة صخرتها.
الشاعر العربي أبو فراس الحمداني يقول “إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر”، والمثل الشعبي يقول “بعدي ما ينبت حشيش”.