مظاهرات لبنان غير

لا أعلم هل كنت سعيدا أو سيء الحظ بأنني كنت في لبنان عندما بدأت المظاهرات هناك، وفي الواقع لم أكن أتوقع أبدا أنها ستتواصل وتنتشر وتأخذ كل هذا الزخم.

نزلت إلى الشارع في منطقة قريبة من خليج الزيتونية في بيروت، واقتربت من تجمع للمظاهرات، رأيت فتيات وشبان في مقتبل العمر وقمة الأناقة والجمال، يعبرون عن غضبهم بالهتاف والتنديد، وبالأغاني والرقص أيضا، يهتف بعضهم ويرفع لافتات مكتوب عليها كلمات غير مألوفة، وذلك تعبيرا عن استيائه الكبير من الأوضاع.

رأيت الصليب معلقا على صدر متظاهرين، ورأيت متظاهرات محجبات، ورأيت شعارات كل طوائف ومناطق لبنان في مكان واحد، فهذا لبنان من مغني وراقصة وشاعر اقتصادي ورزين ومتهور، كلهم اجتمعوا من أجل هدف واحد هو الحياة والكرامة، والكل يهتف لمصلحة لبنان.

استغربت أن المتظاهرين لم يكونوا فقط من الفقراء والجائعين. تقدمت من شخص تظهر عليه معالم النعمة، وسألته عن سبب مشاركته في المظاهرات، فقال: لأن تدهور الأوضاع المتسارع في لبنان جعل الغني متوسط الدخل، ومتوسط الدخل فقير، أما الفقير فقد أصبح مُعدما، وتابع: أنا أتظاهر لأنني أرى ظلاما في مستقبلي، وظلاما أكبر في مستقبل أولادي وأحفادي.

وسألت لبنانينا آخر عن سبب تظاهره، فقال إنه يعمل في ثلاث وظائف يوميا ليتدبر قوت يومه، وأنه يستدين حتى يدفع أقساط تعليم أولاده، وأنه متشائم جدا من المستقبل. ثم رأيت شابا يظهر عليه أنه من الطبقة المعدومة، فسألته ماذا تريد، فقال: كل ما أريده فرصة عمل، وظيفة شريفة توفر لي رغيف خبز، وقال: لا أستطيع أن أكمل حياتي على هذا النحو، واليوم أنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن أحصل على عمل أو أموت في الشارع.

وسألت أحد الشابات، لماذا انت هنا؟ لماذا لا تتركي هذا الموضوع للشباب، فقالت لي: لن أترك الموضوع لأخي وأبي فقط، وأنا معهم في خندق واحد ومصير واحد، لن أقبل بعد الآن السكوت، ومصيري مصير أهلي، ولبنان كله أهلي، وأنا أعلم أن لبنان من أكبره من إلى أصغره يعاني اليوم، ما عدا السياسيين الفاسدين.

قالت البنت: أنا استغرب من عدم إدراك السياسيين في لبنان لواجباتهم تجاه شعبهم، تجاه لبنان ككل، وليس تجاه طائفتهم أو مؤيديهم فقط، إن واجب السياسي ألا يلعب السياسة لهدف السياسية، بل أن يكون سياسيا من أجل تحسين الحياة المعيشية للناس. لقد طلبوا منا أن نضحي من أجل لبنان، ولكننا لا نستطيع أن نضحي أكثر من ذلك، خاصة وأننا نرى أن تضحياتنا تصب في جيوبهم.

قلت لصديق كان معي وحن نسير على كورنيش الروشة: إلا تخاف من أن تنزل الميلشيات إلى الشارع وتقمع هؤلاء المتظاهرين كما حدث في العراق مؤخرا على سبيل المثال: فأجاب: لقد قرر اللبنانيون الثورة وهم يضعون نصب أعينهم مثل هذه الاحتمالات، لكنني متأكد من أن كثيرا من هؤلاء المتظاهرين أصبحوا يفضلون الموت على البقاء في الوضع الراهن. إنهم يحبون الحياة، وقد خرجوا متحدين الموت حبا في الحياة، الحياة الكريمة الشريفة، وهم يراهنون على الشرفاء الموجودين في السلطة.

كتبت في مقال سابق عن ضرورة أن يتعلم العالم العربي كله من دروس انتفاضة السودان الأخيرة، والتي رسمت طريقًا حقيقية وصحيحة، وتعاون معها الجميع، وأفضت إلى تشكيل حكم جديد، وقلت حينها “كم هي طويلة ووعرة ومخضبة بالدماء طريق الحصول على الحرية”، وأعربت عن توقي إلى مصافحة كل سوداني وسودانية ناضل من أجل بناء مستقبل أفضل لبلده.

لقد تمكن المتظاهرون السودانيون رغم قلة عددهم وقلة أماكن تظاهرهم من تحقيق مطالبهم، وأتمنى أن يتمكن اللبنانيون من ذلك أيضا، حيث تشير التقديرات إلى أن عدد المتظاهرين في لبنان يفوق الـ 1.7 مليون متظاهر من أصل نحو ستة ملايين لبناني داخل لبناني، وإذا اخذنا في الحسبان شريحة الأطفال والشيوخ فإنه يمكن القول إن أكثر من نصف لبنان ينتفض، وأن أكثر اللبنانيين نزلوا إلى الشارع، وهذه المظاهرات قبل كل شيء جمعتنا كلبنانيين ووحدتنا على اختلاف مشاربنا على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم.

عندما ذهبت إلى المطار مغادرا لبنان إلى البحرين كنت آخر مسافر يجتاز بوابة العبور قبل أن يغلق المطار لفترة بسبب عدم استقرار الأوضاع. سألني أحد موظفي المطار: إلى أين انت ذاهب؟ قلت له أنا أخرج من لبنان لأعيل أهلي في لبنان، لأن لدي مسؤوليات وأعمال في لبنان يجب أن أوفر لها الدعم والمال.

كنت أردد في داخلي: إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر.

 

 

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s