يستمر المشروع التركي في بسط ظلاله العثمانية على المنطقة من خلال قضمه أراضٍ جديدة شمالي سوريا، فيما المشروع الإيراني يسعى لتكريس سطوته على مناطق نفوذه مثل العراق من خلال قمع الاحتجاجات والمظاهرات المناوئة له هناك، فيما رئيس الوزراء الإسرائيلي يعلن عزمه ضم منطقة غور الأردن..، يحدث ذلك وكأن الأراضي العربية باتت مشاعا لكل الطامعين، يرسمون خرائط توسعهم السياسية والاقتصادية والطائفية بالاتفاق فيما بينهم، دون إيلاء اهتمام يذكر لأصحاب هذه الأرض.
ماذا يعني قضم أردوغان لشمالي سوريا؟ يعني أن سوريا كدولة انتهت فعليا، لأن هذه الأرض المقضومة تركياً تضم الجزء الأكبر من موارد سوريا النفطية والغازية والمائية، وهي خزان الغذاء من قمح وغيره الذي كان يعتاش عليه الشعب السوري على امتداد رقعة بلاده، وهذا يعني بالمحصلة أن أي أمل في إعادة إعمار سوريا قد تلاشى، لأن هذا البلد بات بلا موارد حقيقة يمكن أن يسدد من خلالها تكاليف إعادة الإعمار ولو بعد عقود.
ماذا يعني نجاح إيران في إخماد المظاهرات ضدها في العراق؟ يعني أن العراقيين الأحرار الذين تُركوا وحدهم في الساحات يقدمون التضحيات فقدوا أي أمل بأن يقوم أخوتهم العرب بنجدتهم، وهم الآن ربما لن يعودوا لتلك الساحات مرة أخرى مهما عانو من ظلم واضطهاد وفساد.
ماذا لو ضم نتنياهو غور الأردن بالفعل؟ ما هي الأسلحة التي سيواجه الأردن والعرب فيها هذا القرار؟ خاصة وأنه قبل فترة قريبة نقلت الولايات المتحدة الأمريكية سفارتها للقدس، واعترفت واشنطن بسيادة تل أبيب على الجولان، وقبلها اقتحم اليهود المسجد الأقصى مرات ومرات وعاثوا فيه فسادا، ولم تجد إسرائيل خلال ذلك كله ما يردعها.
نذهب غربا على خارطة الوطن العربي لنرى مصر -التي نحمد الله تعالى أنها تمكنت من المرور من محنتها بأقل خسائر ممكنة، وها هي الآن تستعيد عافيتها وإن كان ذلك ببطء-، ولكنها تواجه تحديات خطيرة جدا، تواجه الإرهاب في سيناء، وتواجه خطر شح مياه النيل بسبب بناء إثيوبيا لسد النهضة وتَمنُّع أديس أبابا عن مراعاة مصالح مصر في المياه، وهذا تهديد خطير لمصر التي قيل فيها إنها “هبة النيل”.
إلى الغرب قيلا ليبيا، وغني عن التعريف حال هذا البلد العربي الذي تمزق بعد ثورة أطاحت بعمر القذافي، لكنها أطاحت في ليبيا كدولة أيضا، ويبدو أن بعض الزعماء يصبحون هم الأوطان، فإذا سقط الزعيم سقط الوطن أيضا، وهنا مكمن الخطورة، والرجعية والتخلف، والإفلاس السياسي، بل والأخلاقي أيضا.
هل أكمل النظر إلى خارطة الوطن العربي لأتحدث أيضا عن الصومال واليمن؟ حتى لبنان بات على شفى حافة الإفلاس الاقتصادي بعد سنوات من الانفلات السياسي والأمني.
دعوني أروي لأخوتي العرب قصة المثل العربي “أُكلت يوم أُكِل الثور الأبيض”، والذي يؤكد أهمية البقاء والتكاتف معا كالجسد الواحد، وأن انهيار أي جزء في المنظومة يهدد بانهيار المنظومة ككل.
وقصة المثل أن أسداً وجد قطيعاً مكوناً من ثلاثة ثيران؛ أسود وأحمر وأبيض، فأراد الهجوم عليهم فصدوه معاً وطردوه من منطقتهم، فذهب الأسد وفكر بطريقة ليصطاد هذه الثيران، خصوصاً أنها معاً كانت الأقوى، فقرر الذهاب إلى الثورين الأحمر والأسود وقال لهما: “لا خلاف لدي معكما، وإنما أنتم أصدقائي، وأنا أريد فقط أن آكل الثور الأبيض، كي لا أموت جوعاً، أنتم تعرفون أنني أستطيع هزيمتكم لكنني لا أريدكما أنتما بل هو فقط”.
فكر الثوران الأسود والأحمر كثيراً؛ ومالا إلى حب الراحة وعدم القتال فقالا: “الأسد على حق، سنسمح له بأكل الثور الأبيض”، فافترس الأسد الثور الأبيض وقضى ليالي شبعان فرحاً بصيده. لكن بمرور الأيام عاد الأسد لجوعه، فعاد إليهما وحاول الهجوم فصداه معاً ومنعاه من اصطياد أحدهما.
ولكنه استخدام الحيلة القديمة، فنادى الثور الأسود وقال له: “لماذا هاجمتني وأنا لم أقصد سوى الثور الأحمر”، قال له الأسود: “أنت قلت هذا عند أكل الثور الأبيض”، فرد الأسد: “ويحك أنت تعرف قوتي وأنني قادر على هزيمتكما معاً، لكنني لم أشأ أن أخبره بأنني لا أحبه كي لا يعارض اتفاقنا السابق”. فكر الثور الأسود قليلاً ووافق بسبب خوفه وحبه الراحة.
في اليوم التالي اصطاد الأسد الثور الأحمر وعاش ليالي جميلة جديدة وهو شبعان. لكن مرت الأيام وعاد وجاع فهاجم مباشرة الثور الأسود، وعندما اقترب من قتله صرخ الثور الأسود: “أُكلت يوم أُكِل الثور الأبيض”.
احتار الأسد فرفع يده عنه وقال له: “لماذا لم تقل الثور الأحمر، فعندما أكلته أصبحت وحيداً وليس عندما أكلت الثور الأبيض!”، فقال له الثور الأسود: “لأنني منذ ذلك الحين تنازلت عن المبدأ الذي يحمينا معاً، ومن يتنازل مرة يتنازل كل مرة، فعندما أعطيت الموافقة على أكل الثور الأبيض أعطيتك الموافقة على أكلي”.
هذا هو حالنا العربي، ولا أجد ضيرا من استعادة أبيات خالدة للشاعر ابراهيم اليازجي يقول فيها “تنَبَّهُـوا وَاسْتَفِيقُـوا أيُّهَا العَـرَبُ.. فقد طَمَى الخَطْبُ حَتَّى غَاصَتِ الرُّكَبُ/ اللهُ أَكْبَـرُ مَا هَـذَا المَنَـامُ فَقَـدْ.. شَكَاكُمُ المَهْدُ وَاشْتَاقَتْـكُمُ التُّـرَبُ/ كَمْ تُظْلَمُونَ وَلَسْتُمْ تَشْتَكُونَ وَكَمْ.. تُسْتَغْضَبُونَ فَلا يَبْدُو لَكُمْ غَضَـبُ، فَشَمِّـرُوا وَانْهَضُوا لِلأَمْـرِ وَابْتَدِرُوا.. مِنْ دَهْرِكُمْ فُرْصَةً ضَنَّتْ بِهَا الحِقَـبُ”.