أقوياء بالمفرق.. ضعفاء بالجملة

ربما أكون قد حققت نجاحات فردية؛ ثقافية ومهنية وتجارية؛ كثيرة على مدى الأعوام الخمسين الماضية من حياتي، لكنها كانت أيضا فترة عايشت خلالها انتكاسات كثيرة على صعيد الأمة.

كنت طفلا عندما وقعت نكبة عام 1948، وشابا يافعا في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية عام 1967 عندما بدأت شبكات التلفزة هناك تنقل صور دمار الطائرات والمطارات المصرية. حينها قلت لمن حولي إن ما ترونه ليس إلا فخَّا أوقع الزعيم عبد الناصر أعدائه اليهود فيه، وهو الآن سيأخذ زمام المبادرة ويرميهم في البحر كما أخبرنا مرارا، لكن يبدو أنني كنت مخطئا، ومتحمسا أكثر من اللازم، حالي حال ملايين العرب خلف شاشات التلفزة حينها.

حرب أكتوبر كانت لحظة فارقة ومشرِّفة في التاريخ العربي الحديث، كان هناك شبه إجماع عربي، مع تنسيق عالي المستوى بين القيادتين والجيشين في مصر وسوريا، ولكن ما أن بدأت الحرب حتى اختلفت وجهات النظر بين أنور السادات وحافظ الأسد، فتوقف الأول معلنا انتصاره واستعادة أرضه فيما استمر الثاني في حرب استنزاف عبثية، ثم بدأ حليفا الأمس بإلقاء تهم الخنوع والخيانة في وجه بعضهم البعض، وباقي القصة معروفة.

عايشت طبعا بعدها حرب الخليج الأولى والثانية وسقوط بغداد، وحرب تموز، وخراب ليبيا وسوريا واليمن، بما في ذلك ظهور دولة عربية أخرى مطلع سبتمبر الجاري على الحدود بين السودان ومصر وإطلاق اسم “مملكة الجبل الأصفر” عليها!

لماذا لا نستطيع نحن العرب أن نسجل نصرا جماعيا أيا كان؟ عسكريا أو ثقافيا أو اقتصاديا؟ حتى في الرياضة ربما يبرز اسم لاعب عربي في دوري أوربي مثلا، أو تحوز بطلة تونسية أو أردنية على ميدالية ذهبية في الجري أو السباحة في إحدى الدوريات الأولمبية، ولكن يبدو أنه من المستحيل أن نرى فريقا رياضيا عربيا يحرز مرتبة مرموقة في منافسة عالمية، لا في كرة القدم ولا في غيرها.

المشهد الإعلامي العربي أيضا غارق في مهاترات لا تنتهي، وأذكر كيف أن خلافا حول مباراة كرة قدم بين مصر والجزائر كانت كفيلا باشتعال جبهات الإعلام بين الطرفين، وهي حرب شارك فيها مثقفون وفنانون أيضا، واستُخدمت فيها أقذع العبارات، والحمد لله أن الأمور لم تتطور أكثر من ذلك، وعادت المياه لمجاريها بين الدولتين العربيتين الكبرتين.

هناك روايات مختلفة عن صاحب مقولة “سنزرع للعرب شوكة في ظهرهم -أو في مؤخرتهم- يِحُكُّونها حتى آخر الدهر”، وقرأت مؤخرا أن هذه المقولة منسوبة للزعيم السوفيتي الأبرز جوزيف ستالين، حيث أنه عند الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في العام 1948 عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي آنذاك اجتماعا لتدارس الأمر، وانقسم “الرفاق” بين مؤيد ومعارض للاعتراف بإسرائيل، فكان أن قال ستالين مقولته تلك، وكان الاتحاد السوفيتي أول دولة في العالم تعترف بدولة إسرائيل حينها.

هل هذه الشوكة هي ما يمنعنا كعرب عن الاتحاد والتلاقي؟ صحيح أن قيام دولة إسرائيل قطع الوطن العربي جغرافيا إلى جزئين، وأدخل المنطقة في أتون حروب وصراعات لا تكاد تنتهي، ولكن لا اعتقد أن ذلك هو سبب عدم اتفاقنا كعرب، بل على العكس تماما، إن التهديد الذي شكلته وتشكله إسرائيل لنا كعرب وسيطرتها على القدس والأراضي العربية المحتلة يجب أن يدفعنا لتجاوز خلافتا والبحث في كيفية استعادة القدس، بدلا من ترك الساحة لدول مثل إيران وتركيا تجيش مشاعر شعبها وشعوبنا أيضا بذريعة تبنيها لقضية القدس وتحريرها.

الانتصارات أو الإنجازات الفردية تبقى منقوصة ما لم تكون ضمن إطار نجاحات وتطور جماعي للوطن والأمة، ما الفائدة من أن تطل من نافذة قصرك على العشوائيات وبيوت البؤس والبؤساء في وطنك؟ ما الفائدة أن يكون لديك طائرة خاصة لكن ليس في بلدك مطار متطور؟ ما الفائدة أن يحمل ابنك شهادة عليا في الجراحة أو العلوم المصرفية في بلد ليس لدى معظم أهله ما يسدون به رمق حياتهم؟

منذ عقود ظهر في العالم توجه نحو “المسؤولية الاجتماعية للشركات”، بمعنى أن الشركات التي تستثمر في بلد ما وتجني أموالا منه -خاصة تلك التي تلوث البيئة مثلا-، أن تعيد جزءا من أرباحها لخدمة المجتمع، ومؤخرا بدأنا نسمع أيضا بمصطلح “المسؤولية الاجتماعية للأفراد”، بمعنى أن هذه المسؤولية تنسحب على الأفراد أيضا.

إن الهدف من ذلك هو ضمان استقرار وتماسك ورفاهية المجتمع، بما يضمن استمرارية عمل الشركات وجني الأرباح وكذلك الأفراد، وهذا يعني أن الجميع في مركب واحد، ومن مصلحة الجميع أن يواصل هذا المركب مسيرته بأمان، وهذا هو مفهوم التكافل الاجتماعي، أو الانتماء للمجتمع والأمة.

يكفي أن تتنقل بين الأخبار عبر التلفاز أو تويتر لعشر دقائق حتى تدرك هول الكارثة التي نحن فيها كعرب، في وقت نحن في أمس الحاجة فيه للوحدة أو التوحد بأي شكل من الأشكال، وأن نصل إلى اتفاق على صيغة تكتل عربي مهم، قادر على مجاراة القوى الإقليمية والعالمية، ولديه قوة علمية واقتصادية وعسكرية، وإلا فلننتظر النهاية، إن لم نكن قد انتهينا بالفعل.

وصلت إلى نهاية مقالي وأنا أردد في عقلي أبيات الشاعر العروبي نزار قباني يقول فيها: “أنا يا صديقة متعب بعروبتي.. فهل العروبة لعنة وعقاب/ أمشي على ورق الخريطة خائفا.. فعلى الخريطة كلنا أغراب/ أتكلم الفصحى أمام عشيرتي وأعيد … لكن ما هناك جواب”.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s