يقول أحد أشهر وزراء خارجية الولايات المتحدة الأمريكية على مر التاريخ، الثعلب هنري كيسنجر “ليس من مصلحة امريكا إيجاد حلّ لأيّ مشكلة في العالم، هي فقط تمسك بخيوط المشكلة.. ثم تحركها وفقاً لمصالحها”.
هكذا هو الأمر ببساطة ووضوح كاملين، وانطلاقا من هذه القاعدة الثابتة في السياسية الأمريكية المتغيرة يمكن القول إنه لا يمكن الاعتماد حقيقةً على الولايات المتحدة الأمريكية في حل النزاعات في العالم، فواشنطن لم تتدخل لإيقاف الحرب الأهلية في رواندا مثلا في تسعينيات القرن الماضي، لأن هذا البلد فقير ليس لديه موارد، كما أنها لن تتدخل لحل النزاع في الشرق الأوسط الذي تنال واشنطن حصة الأسد من موارد دوله المتنازعة.
لماذا لا نريد أن نرى هذه الحقيقة الساطعة؟ لماذا تصر دول مثل إيران وتركيا على القيام بأدوار إقليمية أكبر من حجمها الحقيقي؟ هل ستعيد إيران بناء امبراطورية فارس بالفعل؟ أم سيتمكن أردوغان من استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية؟ أليس هذا ضرب من الخيال؟
لماذا تتواصل محاولات إضعاف دول المنطقة عبر إرهاقها بالحروب وعدم الاستقرار؟ أليت القدس هي البوصلة بحسب تصريحات طهران؟ لماذا إذاً تشن حروبا هنا وهناك تجعل من إسرائيل واحة سلام وحليفا محتملا لدول قدمت شهداء من أجل تحرير فلسطين لكنها ترى الآن أن إسرائيل هي أهون الشرَّين؟
على رقعة الشطرنج العالمية اليوم لاعبين كبار، الولايات المتحدة الأمريكية أولا وثانيا وثالثا، مع مساحة مناورة واسعة هنا أو هناك لدول عظمى مثل الصين وروسيا، ولا يحدثني أحد عن بريطانيا أو فرنسا وغيرها، فكلها دول منهكة تعيش على أمجاد الماضي.
الأنكى من ذلك كله الأدوات الرخيصة بيد دول كبرى، مثل الحوثيين وحزب الله وحماس وغيرهم، فهؤلاء أسهموا في أذية أوطانهم أكثر من العدو الخارجي عندما سمحوا لمشغليهم أن يستغلوهم في بناء دولة داخل دولة، وربطوا مصيرهم بمصير هؤلاء المشغلين إيديولوجيا وعقائديا وتنظيميا وماليا.
إنها لعبة، كل جهة فيها تعتقد أنها الأفضل والأقوى والأقرب لتحقيق الأهداف، ولكنها في واقع الأمر ليست أكثر من جزء من لعبة أكبر تجتمع فيها مع جهات أخرى، ليُشكَّل هذا الجمع بدوره جزءا آخر في لعبة أكبر، وهكذا، حتى تصل الخيوط كلها للمشغل الأكبر الذي يتحكم بالجميع: الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن كيف يستقيم كل ذلك مع التغير الكبير الظاهر في السياسات الخارجية الأمريكية؟. اعتقد أن السياسة الأمريكية التي يمارسها اليوم الرئيس دونالد ترامب هي الوجه الحقيقي لأمريكا، بعيدا عن شعارات الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والحكم الرشيد وغيرها،
إن الأهداف الرسمية المعلنة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، كما يحددها جدول أعمال وزارة الخارجية الأمريكية، هي خلق عالم أكثر أمناً وديمقراطية ورخاءً لصالح الشعب الأمريكي والمجتمع العالمي، وتذكر لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي بعضاً من الأهداف في دائرة اختصاصها: “قيود التصدير، بما فيه منع انتشار التكنولوجيا النووية والعتاد النووي؛ واجراءات تقوية التواصل التجاري مع الأمم الأخرى ولتأمين المصالح التجارية الأمريكية في الخارج؛ اتفاقيات السلع الدولية؛ التعليم في الخارج؛ وحماية المواطنين الأمريكان في الخارج و العامل في الخارج.
وتعتبر المصلحة الوطنية من أهم الأدوات التفسيرية لفهم وتحليل نهج السياسة الخارجية للدول خاصة إذا كانت مصالح قوى دولية عظمى كالولايات المتحدة. ويمكن إجمال تلك المصالح في أمن إسرائيل وضمان استمرار السيطرة على منابع النفط والغاز وتأمين طرق التجارة العالمية ومحاربة الإرهاب ومنع انتشار السلاح النووي وظلت تلك المصالح ضمن الخطوط الحمر للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة بالإضافة إلى تشجيع التحول الديمقراطي وحماية حقوق الإنسان وحماية الدول الصديقة، وقد أثارت مناقشات عديدة داخل مؤسسات صنع السياسات الأمريكية، وخارجها.
مع الأسف، كل ذلك تبدل الآن بطريقة تصب عكس مصالحنا كعرب، فلم يعد هدف الولايات المتحدة في عهد ترامب خلق عالم أكثر أمنا، ورخاء المجتمع العالمي، وتقوية التواصل التجاري بين الأمم. حتى أن واشنطن لا يبدو أنها باتت معنية كثيرا بالسيطرة على منابع النفط بعد أن تجاوز انتجاها النفطي 12 مليون برميل يوميا، كما أنها تخلت عن واجبها في تأمين طرق التجارة العالمية وحماية الدول الصديقة، ويظهر هذا جليا من خلال مظاهر العربدة الإيرانية في مضيق هرمز ومنطقة الخليج العربي.
يرى الصحفي الفرنسي الشهير تيري ميسان أن السياسة الخارجية، الحالية، للولايات المتحدة متناقضة في كثير من الأحيان، تماما كما رأيناها في سورية، حيث تشتبك القوات المدربة من قبل البنتاغون، ضد القوات المدربة من قبل (سي.آي.ايه). لكنها مع ذلك متماسكة حول نقطتين: تقسيم أوروبا بين، من جهة، الاتحاد الأوروبي، ومن الجهة الأخرى، روسيا. وكذلك تقسيم الشرق الأقصى بين، من جهة آسيان، ومن الجهة الأخرى، الصين.
الوضع العالمي الحالي مناسب جدا للولايات المتحدة، فمجتمعها الصناعي العسكري الذي يهيمن على الاقتصاد الأمريكي يحقق مبيعات بمليارات المليارات من الدولارات في كل مناطق التوتر والنزاع في العالم، أما شركاتها العملاقة مثل أمازون ومايكروسوفت وفيسبوك التي تقدم منتجات افتراضية مثل عرض السلع والبرمجيات والترفيه تبيع تلك المنتجات وتحصل رسوما من كل دول العالم التي يسودها السلام.
لذلك تركز العقيدة الأمريكية الحالية -والتي يجسدها التاجر والرئيس ترمب- بوجوب القيام بأي عمل ممكن من أجل سحق المنافسين، وقد رأينا ذلك جليا في حرب ترمب على هواوي الصينية، وهذا يُظهر أيضا أن واشنطن انتقلت من سياسة الاحتواء إلى سياسية المواجهة مع الصين وروسيا والاتحاد الأوربي وأي منافس يهدد مصالحها.
أين نحن العرب من كل ذلك؟ وأين قراءتنا الدقيقة والواقعية لنقاط قوتنا وضعفنا؟ وما مدى قيامنا بمراجعة علاقاتنا مع حلفائنا ومواقفنا مع أعدائنا؟ وما هو الثابت والمتغير في سياستنا الخارجية؟ أتمنى أن نتمكن يوما ما من انتاج نهج سياسي اقتصادي فكري ثقافي يجمعنا ويضاعف من قوتنا ويرهب أعدائنا، ونتمكن من خلاله من لعب دور أكثر أهمية في لعبة الأمم.