لا أكشف سراً إذا قلت إن النجاح الذي حققته في حياتي يعود بشكل أساسي إلى إصراري على الحصول على تعليم جيد عندما كنت شابا يافعا، فقد تمكنت من دخول المدرسة الدولية في بيروت، لأكمل دراستي بعدها في الجامعة الأمريكية، مدفوعا بشغف وعزم لا يلين تجاه حصولي على المهارة والمعرفة التي فتحت لي آفاق النجاح المستقبلي.
واعتقد أنه يتوجب علينا أن نزرع في أطفالنا حب التعليم منذ نعومة أظفارهم، لا أن نوكل هذه المهمة للمدرسة فقط، ولقد كانت والدتي أكبر محفز لي في إكمال تعليمي حتى بعد وفاتها رحمها الله، وقد كانت تلك وصيتها الوحيدة لي عندما توفيت رحمها الله وأنا في سن السادسة عشرة، وأذكر كيف قادت والدتي مشروعا تنويرا في منطقة برج البراجنة في بيروت عندما تمكنت من تأسيس مدرسة نوعية للبنات وأقنعت الأهالي بإرسال بناتهن للدارسة فيها حتى وصل عددهن إلى 1500 تلميذة.
أكتب هذا المقال وأنا أرى، بل وأفخر، بمنجزات البحرين خلال مسيرة مئة عام من بدء التعليم النظامي فيها، لتؤكد بذلك مرة أخرى ريادتها في مجال الثقافة والحضارة على مستوى المنطقة، ولا شك أن الإنجازات التي حققتها البحرين في الفترات اللاحقة بقطاعات المال والصحة والتجارة وغيرها قامت بشكل أساسي على كاهل أبنائها المتعلمين المتنورين.
ولا بد أيضا في هذا السياق من الإشارة إلى دور المرأة البحرينية في ترسيخ مكانة التعليم في البحرين على مدى تسعين عامًا، حيث التحقت الفتيات البحرينيات بالتعليم النظامي منذ عشرينيات القرن الماضي في مدرسة الهداية الخليفية، واستطعن أن يتميزن بحضورهن وعطائهن المتواصل، وقد رأينا المرأة البحرينية المتميزة في مجال الصحة والرياضة والدبلوماسية وغيرها منذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم.
أنا اعتبر أن نجاح التعليم هو نجاح الأمة، وأمامنا أمثلة عديدة حول العالم، فدول مثل سنغافورة وماليزيا واندونيسيا لم تصنع نهضتها الحديثة إلا من خلال التعليم، وقبلها فعلت أوروبا ذلك أيضا، عندما تحررت من ظلام العصور الوسطى مرتكزة على حركات التنوير والتعليم.
التعليم ليس مجرد إتقان القراءة والكتابة والحساب والفيزياء والعلوم والجغرافيا وغيرها، وإنما هو أعمق من ذلك بكثير، إنه التسلح بحب الاطلاع مدى الحياة، وأن يكون الإنسان عميق المعرفة ومتنوع المعرفة، والتعليم هو القاعدة الصلبة التي توفر انطلاقة قوية واثقة واعدة لبناء مستقبل الأمة.
وأنا في الواقع من خلال عملي واحتكاكي مع وزارة التربية لمست عن كثب أن المسؤولين في الوزارة وعلى رأسهم الوزير سعادة الدكتور ماجد النعيمي يدركون تماما هذا الشيء ويعملون من أجله، لذلك نرى أنه حتى المدارس الحكومية لديها منهاج تعلمي أقوى بكثير من المناهج التعليمية الأخرى في كثير من الدول العربية والإقليمية، ونرى مخرجات ممتازة لتلك المدارس رغم تحديات مثل اهتلاك بعض المباني المدرسية وضعف الميزانية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى الكثير من المنجزات البحرينية في مجال التعليم، ومن بينها ضمان الحق في التعليم للجميع، وتكافؤ الفرص التعليمية للجنسين، والتوسع في التعليم الإلكتروني عبر تدشين مشروع جلالته لمدارس المستقبل، والتمكين الرقمي في التعليم، والمشروع الوطني لتطوير التعليم والتدريب، وفتح باب الاستثمار في التعليم والتعليم العالي.
وربما تتمكن البحرين من تحفيز دول عربية أقل تطورا في مجال التعليم، وتساعدها على الارتقاء في مخرجاته، والتركيز على التعليم النوعي وليس الكمي فقط، فليست العبرة بانخفاض نسبة الأمية أو زيادة عدد خريجي المعاهد والجامعات، وإنما في مستوى الوعي وثقافة الشعب ككل، وفي مقدرة خريجي التعليم العالي على مواكبة متطلبات العصر الحديث.
كما أنه من المهم أن يكون التعليم ليس موجها فقط لتخريج أطباء ومهندسين ومحامين ومحاسبين وغيرهم، وإنما التعليم بحد ذاته هو حاضرة أو بداية انطلاقة لحياة أفضل، كما أنني اعتقد أن التعليم المهني ضروري وأساسي في الارتقاء بالأمة إلى مستويات أفضل، والحد من البطالة.
لقد قرأت منذ فترة تقريرا عن وظائف المستقبل، ورأيت أن معظمها مرتبط بالذكاء الصناعي والأمن السيبراني وتقنية النانو والبيولوجيا وعلم الأحياء، فيما ستختفي الكثير من الوظائف التقليدية التي نعرفها حاليا مثل كالمحامي وأستاذ المدرسة والسائق وغيرها، لذلك يجب أن يتجه التعليم نحو تقديم مخرجات لا تلبي احتياجات سوق العمل الحالي، وإنما المستقبلي أيضا، حتى نضمن لأولادنا فرصة عمل لائقة من ناحية، ولنعزز من حضورنا بين الأمم والمجتمعات المتقدمة من ناحية أخرى.
كما أن التعليم داعم أساسي للمشروع الإصلاحي لجلالة الملك المفدى، وذلك عندما يفرز هذا التعليم مواطنا واعيا قادرا على ممارسة حقوقه، متمسكا بالليبرالية، نابذا للأفكار والتجمعات المتطرفة، مدركا أهمية صوته وخطورة اختياره لممثليه في المؤسسات الديمقراطية مثل المجالس البلدية ومجلس النواب، ويستطيع محاسبتهم وتقويم مسيرة عملهم بفكر واع مسؤول.
ومن الخطأ الاعتقاد أن أهمية التعليم تقتصر على الفرد وحده فحسب، بل إن آثار التعليم تنعكس على المجتمع والأمة ككل، وعلى درجة رقي وتقدم الشعوب، والتعليم يعزز التماسك والتلاحم داخل أفراد المجتمع، ونشر قيم الاعتدال والوسطية والتسامح وقبول الآخر، ويزيد من قوة الطبقة الوسطة ويقلل الفوارق الطبقية بين ابناء المجتمع الواحد.
إن ديننا الإسلامي الحنيف يحثا على التعليم والتفكر والتدبر، وأول كلمة نزلت في القرآن الكريم هي “إقرإ”، لذلك يجب أن نتمسك بأننا أمة “إقرإ”، فالتعليم والثقافية والفن والإبداع هو ما يجعل الإنسان إنسانا، وإلا لما تميز عن غيره من باقي المخلوقات.
وإن ظاهرة التطرف التي برزت في أكثر من مكان في وطننا العربي مردها إلى نقص التعليم أو إلى انحراف التعليم عن مساره الحقيقي والصحيح، فحلت الأفكار والنظريات الشاذة مكان المنطق السليم، وغاب الوعي وتفشى الجهل وتسطَّح الفكر.
وأنا في الحقيقة قلق جدا على مستقبل دول عربية مثل سورية واليمن وليبيا، ليس بسبب الدمار الواسع في تلك الدول فالحجارة يمكن إعادة بنائها، وإنما بسبب وجود مئات آلاف الأطفال هناك من الذين حُرِموا من فرصة التعلم خلال وجودهم طيلة السنوات السابقة في مخيمات النزوح أو اللجوء، أو بسبب الدمار الذي لحق بالمنشآت التعليمية، فهؤلاء الأطفال سيصبحون قنابل موقتة تفجر الأوضاع من جديد إذا لم يتم الإسراع بإدماجهم في تعليم يضمن بناء عقولهم بطريقة صحيحة.
التعليم يجب أن يركز أيضا على زرع الإيجابية والتفاؤل في نفوس التلاميذ، فالمواطن السلبي خطر على نفسه ومجتمعه ووطنه، أما المواطن الإيجابي الواعي المثقف فهو الذي يعرف حقوقه وواجباته، ويتفهم واقعه ويعمل بجد على تطويره مدفوعا بحب العمل الجماعي والانجاز والقدرة على تخطي العقبات، وهذه مهارات كلها يزرعها التعليم في نفوس التلاميذ وهم صغار.