مرَّت الذكرى الخمسين لغزو الإنسان للقمر على منطقتنا العربية مؤخرا مرور الكرام، فالأمر لا يعنينا كثيرا، ولدينا حروب وصراعات وجهل وقتل ودمار تجعل من الحديث عن التقدم العلمي وتكنولوجيا الفضاء ضربا من ضروب الرفاهية، ليس إلا.
ولو تمعَّنا جلياً في هذه الذكرى سنجد أن التقدم والحضارة الحديثة لم تعد منذ ذلك الوقت تعتمد على عدد السكان والقوى البشرية ومصادر الطاقة بقدر اعتمادها على التكنولوجيا، وسنرى أن العالم انقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يتبنى التكنولوجيا الحديثة في الصناعة والتعليم والطب والمواصلات وغيرها، تمثله الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والصين وغيرها، وقسم آخر مستهلك لهذه التكنولوجيا، مثل بعض الدول العربية، أما القسم الثالث والأخير فهو لا زال يعيش حالة أهل الكهف إن جاز التعبير.
هذا الانقسام يظهر في بعض الأحيان داخل المجتمع الواحد، حيث تجد شركات ومنظمات وجماعات ومدارس تتبنى التقنيات الحديثة، فيما شرائح عريضة من الناس مهملة تعيش في الجاهلية والخرافات، تشقى لتدبير قوت يومها، وتتعثر في طريقها نحو التقدم.
أتذكر هنا قائد تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن عندما قال إن “العالم انقسم إلى فسطاطين”، لقد كان ابن لادن يقصد أهل الكفر وأهل الجهاد بحسب قناعاته الإيديولوجية المتطرفة. وفي الحقيقة أن الفسطاطين هما: أهل العلم وأهل الجاهلية.
الأبحاث الحديثة تبشرنا، أو لنقل تحذرنا، من التغييرات الجوهرية القادمة في سوق العمل، وتشير إلى أن 60% من الوظائف بشكلها التقليدي ستختفي خلال الأعوام الخمسة القادمة، فلن يكون هناك داعي لسائق سيارة عمومي، أو أستاذ مدرسة، بالمقابل ستحل مكانها وظائف جديدة مثل محلل نظم معلومات، وباحث في الطب الشخصي والجينوم وغيرها.
وحسنا فعلت البحرين من خلال تبني الحكومة الإلكترونية لتكنلوجيا الحوسبة السحابية، وإتاحة مئات التطبيقات الخدمة للمواطنين، وتقنيات الدفع الإلكتروني، مع السعي الجاد نحو فهم وتطبيق تقنيات الذكاء الصناعي، والتعلم الآلي، وبلوك تشين، وغيرها، والأهم ما أره من سعي جاد لتدريب وتأهيل الكوادر الوطنية في هذا المجالات.
لقد صدق رائد الفضاء الأمريكي نيل أرمسترونغ عندما وطأ بقدمه اليسرى القمر قبل خمسين عاما كأول إنسان يخطوا على سطح القمر، ونطق بجملته الشهيرة “إنها خطوة صغيرة لإنسان لكنها وثبة عملاقة للبشرية”، ما مهد لاحقا لإطلاق مهام باتت غير محدودة لغزو الفضاء وسبر أغواره.
الآن، وبعد مرور خمسين عاما على هذا الهبوط التاريخي، لم تعد علوم الفضاء صعبة أو حكرا على وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، وإنما بات بإمكان رواد الأعمال والشركات التجارية الخوض في هذا المجال، وحصد أرباح كبيرة في مجالات إطلاق الصواريخ والأقمار الصناعية، ونقل البضائع والطواقم، وإنشاء البنية التحتية في المدار الأرضي المنخفض، وإرسال رحلات سياحية إلى الفضاء، نعم: رحلات سياحية.
ولقد ظهر مصطلح جديد تحت مسمى “اقتصادات الفضاء” وشهد رواجاً عالمياً خلال السنوات الأخيرة، وتجاوز حجمه عالما نصف تريليون دولار، وذلك كنمط حديث من الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية المستندة إلى المعرفة العلمية المرتبطة بالفضاء الكوني، بما يسهم في تحقيق النمو المنظم للأنشطة الفضائية المواتية لاضطراد النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في جميع البلدان التي اختارت السير في طريق العلم والحضارة الحديثة.
من بين تلك الأنشطة الاقتصادية تكنولوجيا المعلومات والإنترنت، حيث يتم استخدام شبكة الإنترنت بشكل مُوسع من خلال الأقمار الصناعية، إضافة إلى التنقيب والتعدين في الفضاء، وقد وقع الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما على قانون المنافسة التجارية على إطلاق المركبات في الفضاء، ويتضمن هذا القانون بنوداً تسمح للمواطنين الأمريكيين وتشجعهم على النهوض بأنشطة التنقيب واستخراج الموارد من الفضاء، ومن بين هؤلاء المواطنين الأمريكيين السيد إيلون ماسك الرئيس التنفيذي لشركة تيسلا الغني عن التعريف.
النفط الذي نفخر به كمصدر طاقة يحقق لنا عوائد ضخمة ربما لن يكون كذلك خلال السنوات القادمة، فهناك إمكانية كبيرة للحصول على الطاقة من الفضاء، وتقوم الوكالة اليابانية للاكتشافات الفضائية (JAXA) بالعمل على إعداد أقمار الطاقة الشمسية الصناعية التي أصبحت مجالاً نشطاً للأبحاث والدراسات والتطوير بالنسبة للوكالة التي تهدف إلى البدء في البث البعيد للطاقة لاسلكياً في غضون 15 عاماً، وذلك من خلال مجمع شمسي يزن أكثر من 10 آلاف طن وبعرض عدة كيلومترات على مدار ثابت يرتفع عن الأرض 36 كيلومتراً.
هل أروي لكم قصة؟ لقد قرأت مرةً عن جرذ صغير رأى قطيعا من الأفيال جاثيةً قرب أحد البحيرات، فجلس يفكر بينه وبين نفسه قائلا: ماذا لو استطعت صيد فيل واحد منها؟ لا شك أنه سيشكل وجبة دسمة لي لمدة عام كامل أو أكثر، ولكن كيف سأتمكن من اصطياده وجره إلى وكري؟!
تقدم الجرذ خلف أحد الأفيال الكبيرة الجاثية على الأرض، وربط ذيله بذيل هذا الفيل، وأخذ يسحب ويسحب ويسحب بإصرار وحماس فيما قدماه تحفر عميقا في الأرض، لكن الفيل لم يتحرك قيد أنملة، وربما لم يشعر بالجرذ أساسا.
أصب الجرذ بالإعياء واليأس، وما هي إلا فترة قصيرة حتى نهضت الأفيال لتتابع طريقها ومن بينها هذا الفيل ساحبا الجرذ معه بذيله إلى الأعلى، فرأى الجرذ نفسه وقد تعلق بين مؤخرة الفيل والأرض، يسير الفيل فيما الجرذ يتخبط ذات اليمن وذات اليسار.
رأى الثعلب الجرذ على هذه الحال، فسأله: هيه يا جرذ؟ بالله عليك ماذا تفعل عندك، فأجاب الجرذ: كما ترى يا صديقي، أنا برفقة هذا الفيل الطيب، أذهب حيث يذهب.
اعتذر عن قساوة التشبيه، لكن أخشى أن يكون هذا هو حالنا، وهذا هو جوابنا لمن يسألنا عن موقعنا بين الأمم.
في الواقع أنا متسمك بالتفاؤل، ولا أريد إنهاء مقالي بزرع المزيد من اليأس في عقولنا وقلوبنا نحن العرب، وأنا بالفعل أرى بوارق أمل في مناطق مختلفة من وطننا العربي، في الأردن ومصر، وفي دول الخليج العربي بمعظمها التي اختارت طريق التقدم والتكنولوجيا، وهذا مبعث أمل واطمئنان بالنسبة لي، وآمل أن تتمكن باقي الدول العربية من الاستفادة من التجربة الخليجية وأن تلحق سريعا بركب الحضارة والتقدم.