الكنز الذي يملكه الجميع

لقد شغفت طوال حياتي، ولا زلت، بهواية جمع التحف، وكل ما هو غريب ونادر، بدءا من السيارات مرورا بالكاميرات والساعات والأدوات والمعدات العتيقة، واعتبر مقتنياتي في منزلي ومكتبي وأماكن أخرى من تلك التحف كنزي الثقافي الذي آمل أن أتركه للأجيال من بعدي.

إن مفهوم “خزانة النوادر” هو ترجمة عربية غير دقيقة لمصطلح ‘Cabinet of Curiosities’، وهو مفهوم نشأ في عصر النهضة في أوروبا، ليشير إلى مجموعات خاصة من المقتنيات المختلفة، من منحوتات نادرة إلى لقى رومانية، والميداليات العتيقة، والكتب والمخطوطات، وغيرها من الأشياء النادرة والثمينة التي كانت توضع عادة في حجرة كبيرة أو سلسلة من خزائن العرض.

واقتصر وجود خزانات النوادر تلك بما تضمه من ذخائر ونفائس لدى من يستطيع اقتنائها وحمايتها والحفاظ عليها، من الملوك والنبلاء والتجار الأغنياء وغيرهم من علية القوم، وفي وقت لاحق، أصبحت خزائن النوادر هذه أكثر تخصصا في موضوع معين، كالفن أو التاريخ أو الحرب أو التجارة، واصبحت رويدا رويدا متاحة أمام الجمهور، وتطورت إلى ما نعرفه الآن باسم المتاحف.

طرق عرض المقتنيات الأثرية تطورت أيضا، وتغيرت معها طرق الإحساس بعبق التاريخ، ودخلت ما تسمى بالرقمنة إلى صناعة المتاحف، حتى بات هناك ما يسمى بالمتاحف الافتراضية، التي فتحت المجال أمام تعزيز مشاعر الزوار وإدخالهم أكثر في عالم الماضي المدهش.

إنه شغف الاستكشاف من خلال الترفيه، وتلبية حاجات أساسية عليا لدى الإنسان تتعلق بذائقته الفنية وفلسفته في الحياة، وتشبع حاجات أساسية من بينها الفضول، ورغبة بالاستحواذ.

وهنا في البحرين أعرف العديد من الأشخاص الذين يهوون جمع التحف القديمة والمقتنيات التاريخية وخاصة ما يتعلق بتراث البحرين، وتتأصل هذه الهواية لدى البعض إلى درجة تقديس تلك المقتنيات، والبحث المضني عن القطع التراثية ذات المعنى الخاص في حياتهم، وعندما تتحدث إلى أولئك المهتمين بجمع التراث سوف تلحظ بشكل واضح مدى محبتهم الكبيرة لما يقومون به ومعرفتهم الدقيقة بتفاصيل تلك المقتنيات وارتباطهم الشديد بهذه الهواية المتعبة، بل أن كثيرين منهم قاموا بافتتاح متاحف خاصة وضعوا فيها جميع ما يلمكون من مال.

المتاحف الخاصة هذه، هي قصة تروي فصولها من جيل إلى آخر فهي عنوان أصيل لمشروع إحياء التراث يبحث أصحابها في أغوار الحياة العامة، عن الأشياء الثمينة والنادرة التي توثق مراحل حياة الإنسان البحريني عبر العصور.

أصحاب هذه المتاحف أصحاب قلوب شغوفة بالتراث والأصالة، بذلوا جهودا كبيرة ليوثقوا كل ما استطاعوا الحصول عليه من مقتنيات ووثائق تخص التراث المادي والمعنوي، ومن خلال اجتهاداتهم الفردية هذه، أسهموا بشكل أو بآخر مع المؤسسات الحكومية في حفظ الموروث الشعبي.

وتعد هذه المتاحف الخاصة إضافة نوعية إلى المشهد السياحي والثقافي في البحرين، هي في واقع الأمر بنوك معلومات متنقلة، وكنوز تاريخية تبحث عن تنظيم وعناية من قبل الجهات المختصة، حتى يمكن الحفاظ على محتوياتها بشكل سليم للأجيال المقبلة.

هي ليست محلات أنتيكة تعرض تحفا قديمة للبيع، بل هي معرض تاريخي عريق، وشواهد على عصور قديمة من خلال الصور والعملات والرسائل والكتب، وهي بعيدة كل البعد عن المتاجر التي تجمع التحف القديمة للمغرمين بالديكورات المنزلية خاصة من ميسوري الحال.

إن أصحاب المتاحف الخاصة يقومون بدور كبير في حفظ المقتنيات الاثرية ومنع اندثارها، ولا شك أنه يتوجب علينا تشجيعهم من أجل تعلم كيفية حفظ تلك المقتنيات وترميمها وطريقة عرضها، وتوفير أماكن خاصة بالعرض المتحفي لديهم بدل اضطرارهم إلى استغلال البيت الذي يسكنونه على حساب أفراد أسرهم الذين تزاحمهم القطع التراثية وتستولي على معظم غرف البيت في بعض الأحيان، إضافة إلى إصدار التراخيص اللازمة لهم، والتعريف بمتاحفهم عبر الموقع السياحية الخاصة في البحرين.

وأنا أؤكد على أهمية كل ذلك نتيجة لانتشار هذا النوع من المتاحف الأهلية بشكل كبير في البحرين، ففي محافظة المحرق وحدها يوجد سبع متاحف تقريباً، وهناك أكثر من 20 متحفاً في البحرين عموماً لا يسعني المجال لذكرها جميعاً.

كما يمكن تقدم المساعدة الفنية والإدارية لأصحاب تلك المتاحف لتسهيل قيامهم بواجباتهم ضمن المنظومة السياحية، وجعل المتاحف الخاصة ضمن المسار السياحي للمناطق أو المحافظات التابعة لها، إضافة الى ضرورة مساعدة أصحاب المتاحف الخاصة في تطوير عروضهم.

إن ترك الحال كما هو عليه الآن، يعني بأننا قد وضعنا كنز على قارعة طريق، لا هو محمي ولا هو محفوظ، ولأن تاريخنا من ذهب، فيجب علينا المحافظة عليه، ومساعدة من يحافظ عليه.

إضافة إلى ذلك، اعتقد أن تلك المقتنيات الفريدة الرائعة التي تعكس جوانب من أوجه الحياة خلال الأزمنة الماضية لا ينبغي أن تبقى قابعة مصانة في غرف خاصة، ولكن يجب أن تكون متاحة بشكل واضح لجمهور واسع.

لدي تجربة مميزة في الإمارات العربية المتحدة أود أن اختم بها مقالي هذا، فقد أقمت هناك قبل عدة سنوات “متحف دبي للصور المتحركة”، وهو متحف دائم يضم مجموعة أجهزة الصور المتحركة الخاصة بي، ويرجع تاريخها إلى ثلاثينيات القرن الثامن عشر، وتحكي هذه المجموعة رحلة تطور الترفيه البصري— من بدايته ذات التقنية البسيطة إلى ولادة السينما الحديثة هذه الأيام.

وتعرض المجموعة تفاصيل التطور من خيال الظل إلى آلات التصوير ذات الثقب (الغرفة المعتمة) وأجهزة صندوق الدنيا والفوانيس السحرية وصولاً الصور الإستريوسكوبية (المجسمة) وتقنيات الرسوم المتحركة والتصوير السينمائي الحديثة. بل ويمكنك للزائر تجربة ببعض مقتنيات المتحف، مثل جهاز صندوق الدنيا الهولندي الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر أو عن طريق لف بكرة جهاز الميوتوسكوب الذي يعود تاريخه إلى أوائل القرن العشرين.

لقد كانت حكومة دبي داعما كبيرا لي في إقامة هذا المتحف، حتى أنها سمحت لي باستخدام اسم إمارة “دبي” فيه، وهو أمر يعرف الكثيرون أنه ليس سهلا، ولكنهم فعلوا ذلك تشجيعا لأصحاب المبادرات الخاصة في إعادة رواية جزء من التاريخ، وتحفيز الحراك الثقافي والسياحي في الإمارة بشكل عام.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s