لنخلع عنا الـ كيمونو

استثمرت اليابان استضافتها لقمة “مجموعة العشرين” مؤخرا في إبراز جوانب جديدة من تقدم هذا البلد وحضارته، وقد تابعت جانبا من أعمال تلك القمة بما فيها من مشاحنات ومهاترات واتفاقيات وابتسامات صفراء وحمراء وبكل الألوان، لكن ما شدني بالفعل هو تحافظ اليابان على هدوئها السياسي والعسكري والأمني عالميا، فيما تخطو بثبات وقوة نحو مزيد من النمو والازدهار الاقتصادي.

لقد تناولت قمة العشرين تلك “الاقتصاد الرقمي”، وقدمت اليابان نفسها كبلد تمكن من تسخير التحول الرقمي ليصبح مصدراً للنمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، ولا شك أن النجاح في هذا الأمر لم يتم بين يوم وليلة، ولم يفرض من الأعلى بقرار سياسي أو حكومي، وإنما جاء كنتيجة لتطور سياسي اجتماعي ثقافي فكري حضاري يسهم فيه جميع اليابانيين.

لست هنا في وارد الحديث عن معجزة نهوض اليابان من تحت ركام الحرب العالمية الثانية، فهذه قصة يعرفها الكثيرون، لكن المقارنة بين التجربة اليابانية وتجربتنا العربية في العقود الأخيرة هي ما تثير الأسى والحزن.

اليابان ليست من الدول المنتجة للنفط، ولا تُعد من الدول الغنية بأي نوع من أنواع الثروات الباطنية، كما أن أغلب أراضيها جبلية حيث تشغل الجبال أكثر من ثلثي مساحة اليابان، وهي معروفة كمنطقة زلازل وبراكين، لكن الاقتصاد الياباني اليوم هو ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وثاني أكبر اقتصاد متقدم، واليابان هي ثالث أكبر مُصنع سيارات في العالم، وتمتلك صناعة ضخمة للسلع الإلكترونية، وعادة ما يتم تصنيفها ضمن أكثر البلدان الرائدة ابتكاراً بمختلف المعايير العالمية لتسجيل براءات الاختراع.

ربما لدى الكثيرون منا تصورا حول الأسباب التي تقف وراء ما وصلت اليابان إليه اليوم من تقدم على مختلف الأصعدة، ولكني شخصيا أعتقد أن السبب الرئيس خلف ذلك هو أن اليابانيين بعد الحرب العالمية الثانية قرروا خلق لباسهم التقليدي “كيمونو” وارتداء بدلة الحضارة، بما يعنيه ذلك من خروج من عباءة التاريخ والدخول إلى المستقبل.

تثبت التجربة اليابانية أن العنصر البشري هو الأساس، العنصر المتميز بالجد والاجتهاد والالتزام والإخلاص فيما يقوم به، إضافة إلى أسلوب الإدارة اليابانية والأنظمة الإدارية التي أضحت نماذج وأساليب معيارية تدرس وتطبق في الكثير من دول العالم.

من العوامل الأخرى لنجاح الاقتصاد الياباني صناعيا وتجاريا وخدميا الاستقرار السياسي الذي شهدته البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى السياسات الاقتصادية المتجددة والداعمة للنمو الاقتصادي، والتحول إلى الصناعات الثقيلة جنبا إلى جنب مع سرعة التحكم بالتكنولوجيا وإدخالها في مختلف مجالات الحياة.

وعلى الرغم من امتلاك اليابان القليل من الموارد الطبيعية فإن أحد الأساليب التي تتبعها الشركات اليابانية تتمثل في استيراد المواد الخام وتحويلها إلى منتجات تباع محلياً أو يتم تصديرها، وقد احتلت اليابان ثالث قوى اقتصادية على مستوى العالم، وتتمتع العلامات التجارية اليابانية مثل “تويوتا” و”ميتسوبيشي” و”سوني” و”فوجي فيلم” و”باناسونيك” بشهرة عالمية.

التكنولوجيا والصناعات التقنية تشكل أيضا أحد أهم أسباب تفوق الاقتصاد الياباني الذي احتل المرتبة الأولى في إنتاج الإلكترونيات في العالم، مثل أجهزة التلفزيون وأجهزة التسجيل والكاميرات وغيرها، وتعتبر أيضا أول بلد منتج للروبوت “الإنسان الآلي” في العالم.

لكن كل ذلك لا يعني أنه ليس لدى اليابان تحديات حالية ومستقبلية ربما تفوق ما لدينا من تحديات، فمعظم المدن اليابانية مكتظة إلى حد كبير، وتعاني اليابان من شيخوخة المجتمع، لكن لديها حول مبتكرة لتلك التحديات، من بيها الروبوت الذي يساهم في مختلف مجالات الحياة، وتشير الإحصائيات إلى أنه لدى اليابان نحو 400 ألف روبوت من أصل قرابة 720 ألف روبوت في جميع دول العالم.

قرأت ذات مرة عن قصة حدثت في اليابان، وأكتبها هنا لأخذ العبرة منها، تقول القصة إنه في صيف العام 2005 وجدت وزارة البيئة اليابانية أن معدل استهلاك الكهرباء في ارتفاع مستمر، وأن موارد الطاقة اليابانية تحتاج إلى ترشيد عاجل، فطلبت الحكومة من موظفيها وجميع الناس تثبيت درجة حرارة جهاز التكييف على 28 مئوية، وارتداء ملابس قطنية خفيفة تساعد على تنفس مسام الجسم وتكون ماصة للرطوبة.

ورغم أن هذا الطلب صعب، وغريب، ولا يمكن مراقبة تطبيقه على نطاق واسع، إلا أن اليابانيين بمعظمهم التزموا به، وانخفض استهلاك الكهرباء وانبعاث غاز ثاني أوكسيد الكربون إلى حد كبير، وأصحبت هذه التجربة إحدى أهم قصص الالتزام والحس الجماعي بالمسؤولية على مستوى العالم.

هذه القصة تمثل نموذجا في تحمل الناس لمسؤوليتهم تجاه بيئتهم ومجتمعهم ومستقبل أولادهم. نحن مطالبون بالحفاظ على البيئة في البحرين، فهل سيتجاوب التجار وأصحاب المحلات والمستهلكون بشكل طوعي مع قرار المجلس الأعلى للبيئة منع الأكياس البلاستيكية بحلول الشهر القادم؟ دعونا ننتظر ونرى.

في الواقع نحن كعرب وكمسلمين لدينا الكثير من القيم التي يمكننا استحضارها والتشبث بها كموروث ديني وحضاري، مثل الصدق والالتزام والوفاء بالوعد والإخلاص في أداء العمل واحترام الآخرين، إضافة إلى الاهتمام بمسألتي التربية والتعليم بشكل كبير، فهما الركيزة الأولى لبناء عنصر بشري يتمتع بقيم أخلاقية عالية، وتأهيل علمي متميّز يمكّنه من المساهمة الفعّالة في التطوّر.

نحن متأخرون عن الحضارة اليابانية لعقود، لكن نحن أمة لم تمت، وطالما لدينا الإرادة والرغبة في اللحاق بركب الدول المتقدمة، يمكننا أن ننهض نحن أيضا من بين الركام، وننفض عنا غبار الجهل والتخلف والفساد والكسل.

 

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s