الرقابة والقرار

ها هو يوم جديد مليء بالحماس والتفاؤل، تستيقظ فيه باكرا، تنهي بعض أنشطتك الصباحية، تتأنَّق، تركب سيارتك متجها إلى عملك، تتأمل الطريق أمامك، تقلب في ذهنك مشاريعك وأعمالك ومهام موظفيك، تعتقد أن هذا اليوم استثنائي ستتمكن فيه من إطلاق وتطوير وإكمال مشاريع كبيرة، تدخل مكتبك، تبدأ بعقد الاجتماعات وإجراء الاتصالات وإرسال واستقبال رسائل البريد الإلكتروني.

لكن عند المساء تدرك أنك أمضيت ساعات عمل طويلة وشاقة تعمل على حل المشاكل وتخطي العوائق وإطفاء الحرائق، والسبب في ذلك ربما يعود بشكل جزئي لعوامل ذاتية تتعلق بشركتك وموظفيك، ولكن من خبرتي الطويلة في قطاع الأعمال والمشروعات أقول إن السبب الأساسي هو أن الأنظمة والإجراءات الحكومية ليست سريعة وشفافة بالقدر الكافي، وتتقدم ببطئ شديد قياسا بتقدم الأعمال.

اعتقد أننا جميعا كرجال أعمال ينتابنا شعورا مشتركا عندما يرن هاتفنا، هو خشية ألا يكون هذا الاتصال متعلقا بمشكلة ما أو عائق ما أو حدث غير متوقع، ولا أكشف سرا هنا إذا قلت إن تغيير عنوان شركة يتطلب معاملة شائكة أبطالها دائرة السجل التجاري وهيئة الكهرباء والماء والبلدية، وربما وزارة الصحة والمجلس الأعلى للبيئة وهيئة شؤون الإعلام، كما أن تعديل بسيط في شارع في قرية مثل النبيه صالح يتطلب أياما وأسابيع وربما شهور، والامتثال لاشتراطات تأسيس معهد تدريب أو مطعم يتطلب صبرا وحلما وحكمة في التعامل مع المفتشين الرسميين… .

قرأت مؤخرا مقالا عن تقنية سلسلة الكتل “بلوك تشين”، ودورها في “التعاملات الرقمية”، وفكرت حينها في رؤية البحرين 2030، وكيف رسمت خارطة طريق واضحة المعالم للوصول للاقتصاد الرقمي، والاقتصاد القائم على المعرفة، لكن كثيرا من المؤسسات الرسمية لم تتمكن من فهم أو مواكبة مفردات تلك الرؤية، ولم يعرف القطاع الخاص دوره فيها، وأتمنى بالفعل أن يعود لتلك الرؤية وضوحها وزخمها الذي انطلقت به.

من خلال عملي اليومي، اعتقد أن معظم موظفي القطاع الحكومي، وعلى اختلاف مستوياتهم الإدارية، يعملون بشكل أو بآخر على تطوير أدائهم وأداء مؤسساتهم، لكن التردد والخوف يعتريهم مع الأسف، ولا يجرؤون على الخروج عن أنظمة ولوائح العمل قيد أنملة، حتى لا يعرضوا أنفسهم لمحاسبة لا تحمد عقباها.

إن العمل الأساسي للهيئات الحكومية يجب أن يكون مساعدة المتعاملين معها ونصحهم وإرشادهم للطريق الأمثل لإجراء معاملاتهم وتنفيذ مشاريعهم، وتشجيعهم على الاستثمار والنمو والنجاح، لأن هذا الأمر سيعود بلا شك بالفائدة على الاقتصاد الوطني والمجتمع ككل.

هناك أمر ما يعوق أحد مشاريعي، وعندما استفحل هذا الأمر وتطور، قررت التدخل فيه شخصيا، وتواصلت مع الأشخاص الحكوميين المعنيين في إحدى الوزارات ذات الصلة بالمشروع، وعلمت منهم أنهم يتفهمون الأمر، ويدركون أحقية ما أقول، لكنهم صارحوني بأنهم يخشون اتخاذ قرار بشأنه، لأن هذا ربما يثير غضب أناس آخرين.

والمشكلة الأكبر هي في المسؤول الحكومي يترك الباب مواربا، لا يغلقه كاملا ولا يفتحه كاملا، ولا يأخذ قرارا بنعم أو لا، وتبقى الأعمال معلقة بانتظار فرج من الله ونصر قريب!

اعتقد أن المسؤول الحكومي يخشى الإقدام على قرار أو إجراء أو خطوة غير تقليدية، يدرك تماما مدى فائدتها للبلد والمجتمع والاقتصاد، ولكنه يخشى في قرارة ذاته من الرأي العام، والنواب، وديوان الرقابة المالية والإدارية. وأنا أتفهم ذلك، ولا يمكنني أن أقنع مسؤولا حكوميا بأن يكون انتحاريا سيضع نفسه بإرادته في موقف قد يخسر فيه كرسيه، أو يعرض نفسه للمساءلة والعقاب.

لكن لا بد هنا من التذكير والتأكيد على أهمية ما يقوم به صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد من جهود لتطوير الأداء الحكومي، من خلال مبادرات مثل “الملتقى الحكومي”، و”تواصل”، وبرنامج النائب الأول لتنمية الكوادر الوطنية في المؤسسات الحكومية، وأنا أدعو هنا كل مسؤول حكومي لالتقاط الرسائل التي يوجهها سمو ولي العهد من خلال تلك المبادرات، والعمل في إطارها على تطوير أداء قسمه أو دائرته أو مؤسسته أو حتى وزارته.

المسألة إذاً لم تعد مجرد البحث عن المسؤول الحكومي الكفوء، وإنما المسؤول الحكومي الذي يملك الشجاعة والجرأة من أجل التطوير.

وأريد أن أقول للسادة النواب تحديدا: إن الرقابة على المسؤولين الحكوميين وأداء الحكومة هي اختصاص أصيل من اختصاصاتكم، لكن أود أن أطلب منكم أن تضعوا مصلحة البحرين ككل في حسبانكم عندما ترفعون مقترح بقانون أو تعملون في عضوية أحد لجان التحقيق، فالمسألة ليست إرضاء رغبات أهالي الدائرة الانتخابية ومواكبة أهوائهم وأمزجتهم فقط، وإنما مراعاة مصالح جميع الأطراف، بما في ذلك القطاع الخاص، وهذا يعني مصلحة البحرين ككل.

اعتقد أن على المواطنين أيضا، وأنا واحد منهم، ألا يقدموا مصالحهم الخاصة على مصالح البلد، وألا يقوموا برفع صغار الأمور إلى ممثليهم في مجلس النواب، ويضعون النائب تحت ضغط شعبي، يرغمونه على تبني أمر هو أساسا غير مقتنع به.

هل الحل أن نقسم مجلس النواب إلى قسمين، قسم يمثل مصالح المواطنين والقسم الآخر يمثل مصالح المؤسسات؟ أم أن الأصح أن ينظر جميع النواب إلى الأمور بمصداقية وحرفية؟ كم مرة أوقفت الحكومة الموقرة مقترحات نيابية بقوانين من شأن تطبيها إحداث ضرر بالغ بالاقتصاد والبحرين كمقترح بقانون أسلمة جميع المعاملات المالية مثلا؟

لقد حكمت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارجريت تاتشر بلادها في فترة صعبة جدا، حيث المد الشيوعي في أوجه في سبعينات القرن الماضي، وكان العمال مبهورين بالنظام الاشتراكي، لكن تاتشر خالفت مستشاريها واتخذت أكثر القرارات صعوبة وجرأة في السماح للمصانع بتسريح جزء من عمالها لضمان استمراريتها، وخرجت مظاهرات عارمة ضدها، لكن بمرور الوقت تبين أن تاتشر كانت على حق، ونما الاقتصاد البريطاني بمعدلات عالية، فيما تعثرت اقتصاديات الدول الاشتراكية وأصبح العمال عبئا على مصانع غير منتجة وغير تنافسية وعديمة الجدوى، والتاريخ ينسى القادة المتخاذلين الذين لا يتخذون القرارات الصعبة، لكنه يذكر دائما تاتشر بأنها “السيدة الحديدية”.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s