بعد غياب نحو عام كامل عن مسقط رأسي، لبنان، استثمرت عطلة عيد الفطر لقضاء هذه المناسبة السعيدة بين الأهل والأصدقاء في بيروت تحديدا، وكانت فرصة مناسبة لي للاطلاع عن قرب على أوضاع بلدي الذي يعيش أزمة اقتصادية طاحنة، فيما لا زال ما تبقى من أهله متمسكون بكثير من الفرح، وشيء من الأمل والتفاؤل.
في المطار والمواصلات العامة والمولات رأيت وجو ها بشوشة للبنانيين يبدوا أنهم استطاعوا التكيف مع واقعهم السياسي والاقتصادي والمعيشي الصعب. ربما يتألمون لحالهم من الداخل، وربما يفكرون جديا بالهجرة وترك البلد، لكنهم قرروا بشكل أو بآخر أن يعيشوا الحياة في لبنان، ما استطاعوا إليها سبيلا.
لقد تسنَّت لي خلال إجازتي القصيرة تلك فرصة حضور أكثر من مناسبة، من بينها عرس لأصدقاء في “بكرزاي” التي تعتبر من أجمل مناطق لبنان، إضافة إلى عشاء رائع مع أصدقاء قدامى منذ كنا تلاميذا في الكلية الدولية ببيروت، ولا شك أن الأوضاع السياسية والاقتصادية الراهنة تتصدر أي حديث مهما كانت المناسبة.
سألت أصدقائي -ومن بينهم من كان يشغل مناصب حكومية مهمة- عن الأوضاع، فكانت إجاباتهم هي الإقرار بأن الأوضاع صعبة، لكن هناك ضوء في آخر النفق.
هم يعتقدون، وأنا أشاركهم هذا الاعتقاد، أن مشاكلنا في لبنان داخلية أكثر منها خارجية، صحيح أن لبنان بحكم موقعه وتجاذباته يتأثر إلى حد كبير جدا بالأوضاع الجيوسياسية المحتدمة في الإقليم، لكن المشكلة الأساسية في لبنان، وفي كثير من مناطق العالم العربي أيضا، هي الواقع الأليم الذي يعيشه شعبه، وانعدام التوافق الوطني، وتفشي الطائفية والمناطقية والإثنية، وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة الجماعية.
لقد عشنا مع بعض في وئام لآلاف السنين في هذه المنطقة من العالم، لكننا فقدنا قدرتنا تلك على التعايش، وتقوقعنا داخل مجتمعاتنا، وحل التناحر مكان التعايش، وأصبح البون شاسعا بين السني والشيعي، والمسلم والمسيحي، والعربي والكردي، وغيرهم، وأنا استغرب كثيرا لماذا آلت أوضاعنا إلى ما هي عليه من بؤس، ولماذا لم نعد ندرك أن مصلحتنا مشتركة.
لا مبرر لتقسم المجتمع إلى كانتونات طائفية. لا يجب أن تكون هناك مراكز ومؤسسات وجامعات وشركات من لون واحد، ولا يجب أن يكون هناك مكانا للاعتبارات الطائفية أو المناطقية في قراراتنا وتعاملاتنا مع بعضنا البعض، وإنما يجب تقديم الانتماء للوطن والأرض على أي انتماء آخر، فالشعوب والحكام والسياسات تتغير، طال الوقت أم قصر، لكن الأرض تبقى.
والأنكى من ذلك، وما يبعث على الأسى في النفس، أنه فيما تتعالى مطالب اللبنانيين لحكومتهم من أجل القيام بدورها في تحسين أوضاعهم الخدمية والمعيشية، تظهر أصوات “نشاذ” من الحكومة نفسها تزيد من معاناة مواطنيها.
من تلك الأصوات الدعوات العنصرية لوزير خارجة لبنان جبران باسيل، صهر الرئيس ميشال عون، فقد أشعلت تغريدته حول وجود عمالة “سورية فلسطينية فرنسية سعودية إيرانية أو أميركية” في لبنان تزاحم اللبناني على فرصة عمله، غضب اللبنانيين والسعوديين تحديدا على حد سواء، كما عرَّض الوزير نفسه للسخرية إثر تلك التغريدة.
باسيل تحدث في تغريدته عن ضرورة إعطاء أولوية للعمالة اللبنانية على غيرها من العمالة في لبنان، بما فيها السعودية والفرنسية والأمريكية!، فكان رد كثير من السعوديين أن كلام باسيل صحيح، وبالتالي يجب إعطاء أولوية للعمالة السعودية في السعودية على العمالة اللبنانية، وبالتالي طرد اللبنانيين من السعودية!.
تغريدة باسيل قوبلت بموجة استنكار عارمة من قبل جميع اللبنانيين تقريبا، وشاهدت عددا من التسجيلات للبنانيين يصفون باسيل بأقذع الصفات، بل ويتهمونه بالتعاطي، ويطلبون من زوجته أن تحبسه في حمام المنزل ليكف شروره عن اللبنانيين!، ومنهم من سأل باسيل فيما إذا كان يعمل في حديقة بيته عامل سعودي أو فرنسي أو أمريكي، ومنهم من سأل فيما إذا كان لبنان يستطيع الاستغناء عن العمالة السورية أو الفلسطينية بالفعل!
هل يعتقد باسيل نفسه أنه “ترمب لبنان”؟ صحيح أن للرئيس الأمريكي ترمب مواقف عنصرية ضد اللاجئين، ويريد بناء جدار عزل مع جارته المكسيك، لكن ترمب تمكن بالمقابل من تعزيز قوة الاقتصاد الأمريكي الذي يعيش الآن أحد أفضل أوقاته، وزاد من القوة العسكرية الأمريكية، وأعاد للوليات المتحدة هيبتها في كثير من القضايا الدولية، فما الذي قدمه السيد باسيل للبنان؟ ما هي إنجازاته بعد أن تسلم عدة وزارة، علما بأنه يفترض أنه يحظى بدعم الرئيس عون؟
اللبنانيون جميعا يعرفون ما هي أهمية دول الخليج عامة والمملكة العربية السعودية خاصة بالنسبة للبنان، ويقرون بأن الخليج أعطاهم الكثير، وهم سعداء بأنهم يعطون الخليج من علمهم وخبراتهم وعملهم، ويساهمون بفاعلية في النهضة العمرانية التنموية في دول الخليج العربي، وأنا متأكد من أن الحكومة السعودية وحكومات الخليج وحكام المنطقة كلها، يعرفون أن جبران باسيل لا يمثل إلا نفسه.
ثما أنني لا أرى لبنانيين كثير يعملون في العراق أو إيران أو مصر، وإنما يبقى الخليج هو الخيار الأول لهم، واللبنانيين يحتاجون الخليج، والخليج يحتاجهم أيضا، وهذا يحقق مصلحة الطرفين.
إن الانتماء للبنان، والفخر بلبنان واللبنانيين، يجب أن يكون نابعا بما قدموه من خدمات للإنسانية منذ أجدادهم الفينيقيين وحتى اليوم، ومن انفتاحهم على العالم، وقدرتهم على الاندماج والعطاء الثقافي، وليس من خلال “تميزهم الجيني” كما يقول باسيل.
ما أقوله للجميع أننا الآن في مرحلة اقتصادية صعبة، ويجب أن نتساعد مع دولنا وحكوماتنا، ومع بعضنا البعض حتى نخرج من هذه المرحلة، ونتمكن من بناء حاضر ومستقبل أفضل لنا ولأولادنا، وأن نتخلص من مشاعر الكراهية والحقد، وأن نتقبل اختلافاتنا، ونفتح قلوبنا وعقولنا لبعضنا البعض، فإما أن نتعلم كيف نعيش سويا كالأخوة، أو أن نهلك معاً كالحمقى.