تصلني كثيرٌ من الردود على مقالاتي، وبالطبع ليس جميع تلك الردود توافقني الرأي فيما أكتب من طروحات وأفكار، كما أن بعضها لا يعدوا كونه مجاملة، لكن بعضها الآخر جدير بالنقاش.
في هذا السياق تواصل معي صديق أحبه واحترمه، وهو دبلوماسي وكاتب، وكان لديه رأي مخالف لما أوردته في مقال الأسبوع الفائت حول أن “التاريخ لا يعيد نفسه”، قال لي إن الأمم اللي تحدثت عنها في مقالي المذكور كالصين واليابان وألمانيا تضم عددا من الأقاليم والشعوب التي توحدت تحت راية واحدة، وأضاف “أما نحن كأمة عربية ولكي نصل إلى ما وصلت إليه تلك الأمم فلابد من قيادة سياسية موحدة تجمعنا تحت راية واحدة، لأن ما حصل في العصر العباسي والعصر الأموي هو أن العرب من المغرب غربا الى تخوم الصين شرقا كانوا أمة واحدة، لذلك كانت النتيجة تلك الحضارة العربية التي غدت اليوم تاريخا نتغنى به ونحلم بتحقيقه في زمن الانحطاط الحالي”.
وفي تعليق منه حول المشروع الثقافي العربي الموحِّد الذي تحدثت عنه في مقالي، قال صديقي إن هذا المشروع “ليس ممكنا مادامت الأمة تعيش حالة التمزق المذهبي الديني، هذا الدين العظيم الذي زادنا تشرذما وفرقة بدلا من جمعنا كأمة واحدة بسبب المصالح الخاصة التي استغلت هذا الدين حسب أهوائها وأهدافها السياسية”.
توقفت عند تعليق هذا الصديق على مقالي، وقرأته بتمعن، ورأيت أنه جدير بإثارة نقاش أعمق حوله، فكتبت له أنه “لا شك أن الوحدة قوة، وقد كتبت في المقال السابق بيتا للشاعر حافظ إبراهيم يؤكد أهمية الوحدة “إذا ألمت بوادي النيل نازلة، باتت لها راسيات الشام تضطرب”، ولكن مع الأسف جميع حركات الوحدة أو التوحد في العصر الحديث فشلت، لأنها كانت تفرض فرضا على الشعوب، تأتي بقرار من الأعلى للأسفل، كما حدث في الوحدة بين مصر سوريا، ومحاولات الاتحاد بين بلدان المغرب العربي”.
لذلك أنا أرى أنه من الممكن أن تكون الوحدة من الأسفل إلى الأعلى، عن طريق هذا المشروع الثقافي الذي تحدثت عنه، عبر فهمنا كشعوب عربية أن مصالحنا مشتركة ومصيرنا واحد، وأننا مع بعض أقوى وأشد منعة، وأنه يمكن أن نقدم شيئا مفيدا للبشرية بدل أن نكون عالة عليها.
فالمشروع الثقافي الموحد يمكن أن يكون الدين الإسلامي الحنيف أحد مكوناته، وليس جميعها، وعندما نغرس في أذهان النشء العربي الجديد، من جميع الأديان والطوائف، أن الإسلام دين حضارة وعلم وانفتاح وتسامح، فنحن نحصِّنهم من أصحاب المصالح الخاصة الذين يستخدمون الدين حسب أهوائهم.
وأضيف هنا أن الثقافة والعلم والانفتاح هي الحل للتخلص من حالة التمزق المذهبي الديني، وهي طريقنا لبناء الحضارة المنشودة، ولنبحث لنا عن طرق جديدة للحصول على الثقافة من جميع أرجاء الأرض، حتى من الصين، وليس من غابر الزمان، لأنني كما كتبت في عنوان المقال “التاريخ لا يعيد نفسه”.
فأنا اعتقد أن التناغم بين الأسفل والأعلى، يكون فعالا أكثر عندما يتفهم سواد الشعب رأي وتوجهات قياداته، وبالمقابل أؤمن بأنه على أولئك القادة الارتقاء بوعي عامة الناس في جميع الميادين، وتحفيزهم على المزيد من الاطلاع والمعرفة، وأن يعلم كل واحد منهم أن طريقه الوحيد كي يرتقي وينجح هو تطوير علمه ومعارفه وثقافته.
أذكر أنني سافرت إلى الصين في ثمانينات القرن الماضي، كان الناس هناك بدؤوا يتخلصون رويدا رويدا من حقبة ماو تسي تونغ الشيوعية البغيضة، وأخذوا يتلمسون طريقهم نحو الإبداع والابتكار في سياق متسع من الحرية الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وها نحن نرى الإنسان الصيني اليوم تمكن في غضون العقود القليلة الماضية من إعادة اكتشاف مهاراته وإمكانياته الذاتية أولا، ثم بدأ بتغيير ما حوله، وبناء مجتمعه ووطنه، في إطار من العمل الجماعي المنضبط.
أقول هذا وكلي أمل بأن العرب يمرون الآن بما يمكن ان اسميه بـ “الجاهلية الحديثة”، فعندما جاء الإسلام كان دين فكر وتنوير، وأول كلمة نزلت في القرآن الكريم هي “اقرأ”، ثم تتالت العصور بين ازدهار وانحطاط، وليست هذه الأيام هي أفضل أيامنا كأمة عربية أو إسلامية، ولا شك أننا بحاجة إلى صدمة توقذنا من سباتنا، وتعيد لنا ألق الفكر والإبداع والتفاعل الإيجابي الحضاري مع البشرية.
وأنا بكل صراحة مطمأن بأن شباب اليوم ليسوا سطحيين أو غير مبالين كما نميل إلى الاعتقاد، فمن مصر إلى الجزائر إلى لبنان أرى اليوم شبابا مغلوبا على أمره يحمل هموم أمته ويبذل قصارى جهده لجعل حاضره أفضل من ماضيه، ومستقبله أفضل من حاضره، وبالمقابل أرى أن القيادات في الخليج العربي استطاعت استيعاب تطلعات الشباب هنا، واستثمار إمكانياته وتلبية طموحاته، وأرى بالفعل شبابا بحرينيون وإماراتيون وسعوديون في الطب والهندسة والأعمال والابتكار وغيرها يمكن التعويل عليهم في إعادة بناء مجد أمتنا، ولن أمل من تكرار ما قاله أبو القاسم الشابي “إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد ان يستجيب القدر”.