جاءني صديق يلتمس مني مساعدة ابن صديق له في الحصول على وظيفة، قال لي إن الشاب “من عائلة كبيرة معروفة، ذات تاريخ عريق، وأقاربه من الوجهاء في البحرين، وأنا أزكيه للعمل عندك..”، وفيما هو يواصل حديثه عن العائلة وجذورها وامتداداتها كنت أفكر في أن معظم الأشخاص الناجحين في قطاعات الأعمال والفن والثقافة والرياضة وغيرها، والذين أعرفهم مباشرة أو أسمع عنهم في الإعلام، ليسوا من سلالة عوائل غنية أو معروفة، وإنما عصاميون اعتمدوا على أنفسهم واجتهدوا في بناء سمعتهم المهنية ومجدهم المالي والاجتماعي.
قابلت الشاب المرشح للعمل، فرأيته أكثر حديثا وإيمانا من صديقي نفسه بقيمة ومكانة عائلته، حتى أنه كاد ينسى مجال عمله وما الذي يمكنه تقديمه للشركة، وكلما سألته سؤولا استطلع من خلالها عن إمكانية حصول الشركة على فائدة منه في هذا المجال أو ذاك من مجالات الأعمال الكثيرة التي تضمنها مجموعتنا، يجيب بأن والده أو عمه كان ناجا في هذا المجال وله علاقاته الواسعة وتاريخه..، قلت له “عسى خير”، وأنهيت المقابلة دون أن أجرحه أو أحرجه.
اتصلت بصديقي وقلت له: “مع الأسف، تخصص الشاب الذي أرسلته لي هو بالعائلة ومكانة العائلة، ولم أستطع أن أجد له أي وصف وظيفي”، وتابعت “صاحب العمل يبحث عن شهادات وإمكانيات وخبرات، لكن كونك “ابن عائلة” ليس حرفة تستطيع أن تجد وظيفة مناسبة لها، -في مجموعة شركاتي على الأقل-، واعتقد أن الأمر ينسحب على كل مؤسسات القطاع الخاص”. فضحك وقال لي “حاول أن تساعده”، فقلت “لا أستطيع أن أساعد شخصا لا يساعد نفسه”.
في الحقيقة لقد توقفت عند هذا الأمر وفكرت فيه جليا، ورأيت أن معظم مجتمعانا لا تزال تعيش على أمجاد الماضي، ولا تقبل بالواقع ولا تريد أن تعترف بما هو مفيد لها، وقلت في نفسي بأن هذه هي الطامة الكبرى التي يعيشها العالم العربي، فالوالد يريد تزويج ابنه من فتاة لمجرد أنها ابنة عائلة، وكذلك الأم تريد لابنها الزواج من ابن عائلة، وفي معظم الأحيان تنتهي هذه الأمور بالفشل، أو بتعاسة الزوجين على أقل تقدير، وهذا يحدث أيضا على صعيد الصداقات والعمل وغيرها.
علينا أن نغذي في أولادنا مبدأ الاعتماد على أنفسهم، ومواجهة الصعاب، لا أن نفرط في تدليلهم ونتصدى لتذليل التحديات التي تواجههم ونحمل مسؤولياتهم بدلا عنهم، فنحن في هذا الحالة نقوم بشيء واحد فقط: نحن نقتلهم حبا.
شاهدت فيلما عن خطورة إعطاء الأولاد كل ما يردونه، يقول الفيلم إن الولد في هذا الحال سينظر إلى والده أو والدته كمجرد بطاقة صراف آلي “ATM” مفتوحة، وطبعا سيكون الولد أكثر عرضة للانغماس في ملذات الحياة والانحراف، لأنه سيبحث دائما عن ملذات يشتريها بمال والديه، ثم نقول “لقد قدمنا له كل شيء، فلماذا فشل؟”، لقد فشل لأننا قتلناه حبا.
علينا أن نعلم أولادنا قول الشاعر “لا تقل أصلي وفصلي أبدا، إنما أصل الفتى ما قد حصل”، علينا أن نعزز فيهم حافز الاعتماد على الذات، وأن نتركهم يواجهون المشاكل ويحلونها بأنفسهم، ولا ضير من تحملهم بعض الشقاء لأن هذا سيكون في صغرهم بمثابة اللقاح الذي يمنحهم الوقاية من الاستسلام مستقبلا أمام الصعاب التي ستواجههم عندما يكبرون ولا نكون بجوارهم.
بالمقابل، أود أن أسرد هنا قصة شاب آخر، قابلته صدفة، ورأيت في عينيه الحماس والاندفاع، قال لي إنه تخرج للتو في تخصص له علاقة بالمالية والأعمال الدولية، وأنه يكتب أطروحة عن الذكاء الاصطناعي المدعم بذكاء الانسان. أعجبني كلامه، ودخلت في نقاش أعمق معه، وتمكن من إقناعي بأنه سيكون مفيدا جدا أن منحته فرصة عمل معي في مجموعة شركاتنا، وأن يكتب أطروحته من خلال تجربته العملية معنا، علَّه يخرج من مجموعة شركاتنا بأفكار جديدة، نستطيع من خلالها توظيف الذكاء الاصطناعي المدعم بذكاء الانسان في تطوير أعمالنا، خاصة وأنا على قناعة تامة بأنه عاجلا أو آجلا سنقوم بتبني هذا التوجه العالمي الجديد في عملنا.
علمت بعد ذلك أن هذا الشاب أيضا ابن عائلة عريقة، لكنه وضع اسمه قبل اسم عائلته، فازداد إعجابي به، وأنا آمل بأن نجد نظيرا لهذا الشاب في كل بيت من بيوتنا، فهم من سنعتمد عليهم في بناء مستقبل أكثر ازدهارا.
حسناً فعلت البحرين بإطلاق “البرنامج الوطني للتوظيف”، فيجب أن نعزز فرص البحرينيين في إيجاد وظائف لائقة، وأن نعمل دائما على تطوير المبادرات الكفيلة بذلك، لكن يجب أن نكون حذرين جدا في تطبيق تلك المبادرات، وأن نضمن أن أبنائنا الباحثين عن عمل يدركون جيدا أن المعيار الأول في إيجادهم فرصة عمل مستدامة هو انتاجيتهم، فكونك بحرينيا أو ابن عائلة عريقة أو لديك قريب نافذ يستطيع أن يفتح لك هذا الباب أو ذاك هي ميزات جيدة يمكنك الاعتماد عليها مؤقتا، ولكن استدامة النجاح والتميز والارتقاء في السلم الوظيفي والنجاح المهني والمالي والاجتماعي يعتمد على شخصيتك انت، أنت لا سواك.