في دول مثل السودان والأرجنتين خيرات غذائية تسد جوع الإنسانية جمعاء، وفي الخليج وروسيا طاقة تكفي لتدفئة البشر أجمعهم، وفي الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية تقنيات علاجية ودوائية تقي العالم شر المرض، فلماذا يجوع ويبرد ويمرض مليارات البشر حول العالم؟ أليس هذا سؤالا منطقيا وغريبا ولكنه ساذجا أيضا في آن واحد؟
هل الإنسان أخو الإنسان بالفعل؟ أم أن جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل لا زالت تتكرر منذ خلق البشرية؟ هل الإنسان مفطور على الخير أم على الشر؟ أم أن الشر يولد مع الإنسان وعليه أن يناضل من أجل اكتساب الخير؟، ألا يعتبر الكثيرون أن كتاب “فن الحرب” الذي وضعه الصيني “سون تزو” قبل أكثر من ألفي عام مرجعا يجب أن يستخدم البشر التكتيكات العسكرية التي وردت فيه من أجل الانتصار ليس في حروبهم فقط، بل في مختلف صراعاتهم الاقتصادية والفكرية والاجتماعية والثقافية وحتى الأسرية؟
أجلس في مكتبي متصفحا الأخبار لأرى المآسي تعصف بهذا العالم، في فنزويلا والمكسيك والغابون، وبريطانيا وفرنسا، وسوريا والعراق وليبيا، حتى باتت دولا مثل سويسرا وكندا أشبه بواحات “سلام حرج مؤقت” في بحر متلاطم من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أقول “واحات سلام مؤقت” لأنه ليس هناك مكان في العام بمنأى عن المشاكل التي صنعها الإنسان بنفسه، مشاكل الاحتباس الحراري والصراع الثقافي والحضاري والديني، والحروب السيبرانية، وغيرها من المصاعب العالمية التي لا تستثني أحدا.
هل أصبح كفاحنا من أجل الحياة وانتصاراتنا فردية؟، الكل يقول اللهم نفسي، وقليلون من يقولون اللهم مجتمعي ووطني وعالمي.
نعيش في عالم اختل توازنه، يمشي الإنسان في المناطق الغنية كيلومترات عديدة من أجل أن يتمكن من هضم طعامه، فيما يمشي أخوه الإنسان في مناطق فقيرة كيلومترات عديدة من أجل البحث عن لقمة طعام تسد رمقه، يموت الأطفال السوريين في مخيمات اللجوء من البرد، فيما ينفق العالم في أماكن أخرى ملايين الدولارات على حفلة زفاف أو رحلة سياحية إلى الفضاء، يبيع شاب صيني كليته من أجل الحصول على جهاز آيفون. يلقي الفقراء بفلذات أكبادهم على قارعة الطريق، فيما يتزوج الممثل ريكي مارتن من صديقه السوري جوان يوسف وينجبان طفلة!.
لست كارل ماركس لأرسم معالم اقتصاد عالمي جديد، ولست جان جاك روسو لأضع عقدا اجتماعيا جديدا، كما أنني لست أوبرا وينفري أو د. فيل المفوهين، لكن بإمكاني إسداء بعض النصائح لمن هم حولي، والتي ربما تكون مفيدة، خاصة وأنني بت أرى اليأس في عيون أصدقائي أكثر فأكثر، يتحدثون عن الأوضاع السيئة في المنطقة والوطن العربي، محتارين قلقين على مستقبلهم المادي ومستقبل أطفالهم التعليمي والثقافي والاجتماعي، يبدؤون حديثهم بأي خبر سيء سمعوه عن السياسية أو الاقتصاد أو حتى الرياضة.
من السهل على الإنسان أن يستسلم للواقع، ويكتفي بالتذمر وإلقاء اللوم على الظروف، ولكن في الحقيقية كلما ساءت الأمور واشتدت المصائب وجب علينا الارتقاء بأنفسنا إلى الأعلى للبحث عن حلول غير تقليدية نتجاوز فيها تلك التحديات، فعندما تسبح ضد التيار في بحر هائج، يجب عليك مضاعفة جهودك أكثر فأكثر حتى تصل إلى الشاطئ بأمان، أو تحافظ على توازنك وتتجنب الغرق على الأقل في انتظار تحسن الأحوال، لا أن تختار الحل الأسهل وهو الاستسلام، لأن الاستسلام هنا يعني الموت لا محالة، فلا بد أن نخرج من جميع أزماتنا بأن نعلو فوقها، وأن نجد لأنفسنا مخارجا مهما كانت صعبة أو ضيقة.
علينا أن نصبر على زعماء مثل ترمب الذي يريد إعادة أمريكا عظيمة كما كانت وإن كان ذلك على حساب إلحاق الضرر بباقي الدول والشعوب، فحربه التجارية مع الصين ساهمت في الحد من نمو الاقتصاد العالمي، وجداره العازل المثير للجدل مع المكسيك لن يؤدي إلا إلى زيادة معدلات الفوضى والإجرام في هذا البلد، كما أن اقصاءه للجماعات الضعيفة في المجتمع الأمريكي مثل العمال المخالفين أو اللاجئين لن يؤدي إلى إلا تحولهم نحو العنف.
علينا أيضا أن نكون حريصين على تضمين جانب اجتماعي إنساني خيري فكري ثقافي حضاري في كل ما نقوم به من أعمال، عندما نسلم على جيراننا، وعندما نقود سيارتنا في الطريق، وعندما نبيني مشروع إسكاني، وعندما نستثمر في التعليم، علينا أن نفكر في خدمة غيرنا من البشر لا أن نلحق الضرر بهم. ألا يقال إن تاجر المخدرات لا يتمنى موت زبائنه بجرعة زائدة حتى يضمن استمرارية تصريف بضاعته لهم؟ هل هذا المثل قوي بما فيه الكفاية حتى نفكر بعدم إلحاق الضرر بغيرنا من أشقائنا البشر، بل خدمتهم وتنميتهم لأن هذا سيعود بالخير علينا أيضا بشكل أو بآخر؟
علينا أن نجالد أنفسنا، أن نحقق انتصارات عليها، وسمعت قائد في الجيش الأمريكي ينصح جنوده بالقول إن انجازاتهم العظيمة تبدأ بقيامهم بترتيب فراشهم في الصباح، فلا يمكن لجندي يهمل ترتيب فراشه أن يكون منضبطا بما يكفي في ميدان المعركة.
إما أن نتمسك بروح التحدي والإصرار والإيجابية في تعاملنا مع الشدائد بمختلف أنواعها ومنابعها، وإما أن نركن إلى التسليم بأنه عندما صنع النبي نوح عليه السلام سفينته نجا فيها مع عائلته مع أزواج من الحيوانات والنباتات، وربما أراد الخالق تنظيف الأرض من الفساد الذي طغى حينها، لكن الفساد والإفساد عاد من جديد، فهل نحن بحاجة لطوفان جديد لا ينجو منه سوى الصالحين منا؟ ربما.