الفوضى تُدمِّر والعقل يُعمِّر

إن ما يحدث في فرنسا حاليا جزء من الغوغائية العالمية لأناس يخرجون إلى الشوارع مدفوعين بالعاطفة دون رؤية واضحة، ينشدون الأفضل ليتحسَّروا بعدها على ما كانوا فيه من نعم، يبحثون عن مصالح آنية ضيقة، ولا يريدون تحمل مسؤولياتهم كأفراد تجاه التحديات التي تواجه أمتهم أو الإنسانية جمعاء.

ونشهد دائما أنه في المجتمعات المتقدمة تتخبط السلطات بين ضرورة الحفاظ على الممارسات الديمقراطية العريقة من جهة، ومتطلبات فرض الأمن من جهة أخرى، وربما هذا ما دفع ونستون تشرشل للقول ذات مرة “إن الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم – باستثناء كل الاشكال الأخرى التي تم تجربتها”.

إن تفاقم الاحتجاجات وصولا إلى ارتكاب العنف يعود لعدم رضا الناس على الواقع الذي تعيشه، والمشكلة هنا هي أن الكل يريد أكثر مما يملك دون أن يكلف نفسه عناء الكفاح من أجل ذلك، وأنا أرى أن الإنسان يحصد ثمار ما يزرع، فإن اجتهد وفكر بطريقة جدية بأن الحياة ليست عبارة عن أحلام وشعارات يرميها هنا وهناك فيصل إلى مبتغاه دون عنف أو أساليب ملتوية.

ويبدو أن الناس، حتى في الغرب المتقدم، غير جاهزين حتى الآن من أجل تحمل مسؤولياتهم الفردية تجاه مستقبل الإنسانية، فالكل لا يرى سوى مشاكله ولا ينظر إلى التحديات المستقبلية التي تواجهنا جميعا كجنس بشري، فهناك مفارقة كبيرة بين من يفكر لمصلحة مجتمعه وبين من ينهش من هذا المجتمع، فالأسهل طبعا أن نأكل ما لدينا اليوم، والاصعب هو أن نفكر ونعمل من أجل مستقبل أفضل يؤمن لنا قوت اليوم والغد وبعد غد.

ليس من طبعي التشاؤم، لكني أرى اليوم ظلاما في الأفق، فعلنا أن نتحسس بالفعل الخطر الداهم الذي يهدد مستقبلنا نتيجة استنزاف الموارد الطبيعية لكوكب الأرض، فأعدادنا تزيد ومواردنا تنقص، وقد يأتي اليوم الذي يتوجب علينا شراء الأوكسجين الذي نتنفسه، فيجب علينا أن نعمل اليوم ونفكر بجدية لغد، فالغد هو مستقبلنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا.

هل الرئيس الفرنسي ماكرون مخطئ عندما أراد تشجيع الناس على تخفيف استهلاك الوقود التقليدي واستبداله بمصادر الطاقة النظيفة؟ كان من الأسهل عليه أن يتكتم على المشكلة ويؤجلها من أجل أن يفوز بولاية ثانية، لكنه لا يستطيع أن يكون ترامب الباحث عن انتصارات لحظية وإن كان ذلك على حساب تدمير البيئة، حتى أن ترامب أطلق مجموعة تغريدات انتقد فيها اتفاقية باريس للمناخ، زاعما أنها سبب الاحتجاجات الاجتماعية التي تشهدها فرنسا.

لا أرى ماكرون كما يصفه خصومه بأنه “رئيس الأغنياء”، “منفصل عن الواقع”، “يعطي البقايا للفرنسيين”، “لا يغيّر في نهجه”، وهو ليس غبيا عندما يفرض مثل هذه الضرائب، أو يصر عليها، وهو لا يريد أن يضعف من القوة الشرائية للمواطن الفرنسي، غير أن حبه لفرنسا، لوطنه، وللإنسانية، جعله يخضع لإرادة الناس ويقبل بالحلول المؤقتة، وليس الحل النهائي لها.

فرغم ما تشهد البلاد، وعاصمة النور باريس تحديا، من أحداث فوضى وشغب ونهب، إلا أن ماكرون رفض إعلان حالة الطوارئ بالمعنى المعروف، واكتفى بما سماه “حالة الطوارئ الاقتصادية والاجتماعية”، وقام بزيادة الحد الأدنى للأجور 100 يورو شهرياً، وإلغاء الضريبة عن الساعات الإضافية في محاولة لرفع القدرة الشرائية لدى الفرنسيين، غير أن تحرك “السترات الصفراء” (إضافة إلى غالبية الأحزاب السياسية)، رأى هذه الإجراءات غير كافية.

لكن المشكلة التي تحدث في فرنسا حاليا، وحدثت سابقا في مصر وتونس وكرواتيا وإسبانيا وغيرها، هي أن الناس يخرجون إلى الشوارع مطالبين بتحسين مستواهم المعيشي، وهذا حق مشروع، لكنهم يعطلون في الوقت ذاته عجلة النمو والاقتصاد بشكل عام، وتصاب قطاعات مثل السياحة بأضرار بالغة، وترتفع فاتورة الإنفاق الأمني، وكل ذلك يأتي بنتيجة عكسية على المستوى المعيشي للمحتجين.

فخلال جولة قام بها في حي راق بوسط باريس شهد أعمال نهب واسعة أمس السبت، حذر وزير المالية برونو لو مير من “كارثة اقتصادية” بسبب مظاهرات “السترات الصفراء” متوقعا حدوث تباطؤا جديدا في النمو الاقتصادي في نهاية العام نتيجة تلك الاحتجاجات، خاصة وأن الجميع يعلم أن الاقتصاد الفرنسي ينتعش خلال هذه الفترة دوما قبل عيد الميلاد.

لقد شهدت الأحداث في فرنسا تصعيدا خطيرا بعد هجوم ستراسبورج الإرهابي الأخير، ووصلت لمرحلة الإنفلات الأمني، واستنزاف الشرطة ومحاولة تقويض مؤسسات الدولة وإثارة الهلع بين المواطنين، حتى أصبحت باريس بين مطرقة الفوضى وسندان الإرهاب.

المشكلة في فرنسا، هي عندم انضواء المحتجون، أصحاب السترات الصفراء، في هياكل منظمة يمكن مخاطبة زعمائها والتفاوض معهم وضمان امتثال الأتباع كما هو الحال مع الأحزاب السياسية، بل إن الأحزاب السياسية الفرنسية ذات التوجه اليميني واليساري وجدت في احتجاجات الشارع فرصة من أجل الاختباء خلفها وتحقيق مكاسب سياسية، فليست هناك قيادة واضحة للاحتجاجات، وقد اكتسبت زخما عبر وسائل التواصل الاجتماعي وجذبت إليها فئات مختلفة من الفوضويين في أقصى اليسار إلى القوميين في أقصى اليمين.

الأزمة الفرنسية مفتوحة على جميع الاحتمالات، والخروج منها يمكن في معرفة أنه ليس على الدولة طبعا أن تتخلى عن دورها الاجتماعي في حماية الطبقات الأقل حظا من الثروة، جنبا إلى جنب مع الحفاظ على بيئة جاذبة محفزة للشركات ورجال الأعمال الباحثين دائما عن ازدهار أعمالهم في دول لا تثقل كاهلهم بالضرائب، وأن يعمل الجميع من أجل مصلحة فرنسا والقضايا العالمية الكبرى مثل المناخ وغيرها.

 

 

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s