المملكة العربية السعودية توقف المتهمين بقتل مواطنها جمال خاشقجي، وسيعاقبون إن وجدوا مذنبين، وسط توجيهات ملكية بمحاسبة المتورط بهذه القضية “كائنا من كان”. هذه هي السعودية التي نعرف، بلد الحق والعدل والمساواة، والحسم والعزم في التصدي للخارجين عن القانون.
لكن من يعاقب قتلة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وهم معرفون للعالم أجمع؟ من يعاقب قتلة السياسيين والصحافيين الذين اغتيلوا في لبنان وسوريا وتركيا وهم بالعشرات وربما بالمئات؟ هل تذهب دماؤهم هدرا كما ذهبت دماء جبران تويني وسمير قصير والقائمة تطول؟
لقد أدخل اغتال الرئيس الشهيد الحريري لبنان في دوامة عنف أمني واقتصادي وسياسي لم يخرج منها حتى الآن، وتبدلت معالم النهضة الاقتصادية والعمرانية التي شهدها لبنان تحت حكم الحريري إلى خراب وقتل ودمار، وتأثرت سلبا حياة ملايين اللبنانيين، وصعدت قوى أخرى على الساحة في لبنان وسيطرت بقوة السلاح، ورغم ذلك لم نشهد بعد مرور كل تلك السنوات قتلة الحريري يحاكمون، وتكاد قضيته تندثر، أليس هذا غريبا؟.
في سوريا قتل النظام هناك أكثر من نصف مليون سوري بكل وسيلة ممكنة بما فيها السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة، وأباد عائلات وقرى ومناطق بأكملها، واستشهد عشرات آلاف السوريين في معتقلاته تحت التعذيب، بما فيهم صحفيين، وأرسل النظام إرهابيين إلى العراق بإقرار نوري المالكي، ونقل متفجرات لتنفيذ عمليات إرهابية في لبنان باعتراف الشخصية اللبنانية الرفيعة التي تواطأت معه في هذه العملية، لكن لم يهتم أحد بذلك كما اهتم بقضية خاشقجي.
لا زال إصرار بعض القنوات العربية والأجنبية مثل CNN على مواصلة حملتها الشعواء ضد السعودية حتى بعد إعلان حيثيات وفاة المواطن السعودي خاشقجي، وهو ما يمثل ابتزازا رخيصا وتصفية حسابات سياسية وتصعيد غير مبرر وعبث باستقرار المنطقة واستثمار الحادثة لتحقيق مآرب دنيئة.
أدرك تماما أن السعودية كانت ولا تزال بلد الخير والعيش الرغيد والحياة الجيدة، ولقد ساهمت في القضاء على التطرف في الشرق والغرب، كما أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قطع وعدا على نفسه بمحاربة الإرهاب بكل ما أوتي من قوة.
الناس سواسية بلا شك، والحق في الحياة حق أصيل لكل إنسان، والوصايا العشر في شريعة حمورابي بدأت بعبارة “لا تقتل”، وجميع الشرائع السماوية والوضعية تجرم القتل خارج القانون، كما تكفل القوانين سلامة جسد الإنسان وعدم الاعتداء عليه لأي سبب كان.
لكن ما يثير الغرابة والدهشة في حادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، هو هذا السعار العالمي الذي وصل حتى هندوراس وتشيلي، وبات اسم الضحية خاشقجي يتردد يوميا عشرات وربما مئات المرات في الإعلام، وفي أروقة السياسة والاقتصاد، وعلى أعلى مستويات الأمم المتحدة، ورؤساء العالم، ومسؤوليه.
برأيي هناك عدة أسباب خلف ذلك، من بينها أن المرحوم خاشقجي إعلامي، لديه تاريخ مهني حافل، ويكتب في أهم صحيفة أمريكية، ولديه حضور إلى حد ما على شاشات التلفزة العالمية، لكن هل هذا يكفي لإثارة كل هذه الضجة التي تتصاعد على مدار الساعة منذ الثاني من أكتوبر الجاري حول وفاته؟
اعتقد أن السبب الأساسي لهذه الضجة العالمية هو أن النظام الحاكم في تركيا تعاطى مع هذه القضية بمنتهى الدهاء والخبث، فليس هناك عاقل يشك في أن الشرطة والمخابرات التركية كانت على علم بكل تفاصيل حادثة قتل خاشقجي منذ الساعات وربما الدقائق الأولى، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام صيد ثمين، يجب أن يستثمروه إلى أقصى حد.
فوضعوا خطة لتسريب المعلومات بحوزتهم إلى الإعلام المحلي والعالمي رويدا رويدا، حيث نقل الإعلام أولا عن مصادر لم يسمها خشيتها من أن خاشقجي لم يختفي أو يختطف فقط، وإنما قتل، وبدأوا بجذب انتباه العالم، وبعد يومين أو ثلاثة سرَّبوا للإعلام أنه ربما تكون الجثة قد قطعت بمنشار، بعدها بأيام نشروا صورة لخاشقجي يدخل السفارة، وفي المساء صور لفريق الاغتيال المزعوم.
حتى أنهم بعد أكثر من عشرة أيام على الحادثة، نشروا فيلما لشخص قالوا إن اسمه مصطفى مدني وأنه أحد عناصر فريق الاغتيال، ارتدى ملابس خاشقجي وخرج بها من السفارة متجولا في شوارع إسطنبول ليوحي أن القتيل خرج من القنصلية بالفعل، فهل من عاقل يمكن أن يقتنع أن هذا الفيلم لم يكن بحوزة الشرطة التركية منذ الساعات الأولى للاغتيال؟ بل أنا أشك أن المخابرات التركية تعرف بالضبط أين جثمان خاشقجي، وستكشف عن ذلك لاحقا في حلقة جديدة من حلقات صبها للزيت على النار.
لنتخيل أن خاشقجي قتل في قنصلية بلاده في بريطانيا أو باكستان أو البرازيل، ما الذي سيحدث؟ سيعقد رئيس الشرطة هناك مؤتمرا صحفيا يقدم فيه ما لدى جهازه من معلومات دفعة واحدة، ويحيل القضية للقضاء، وينتهي الأمر.
أردوغان نفسه، الغارق في مشاكله الاقتصادية والسياسية، وتفاقم أزمته مع الولايات المتحدة بعد اعتقال شرطته للقس الأمريكي أندرو برونسون، مع برود أو تجمد في العلاقات مع السعودية والإمارات ومصر تحديدا، والباحث عن متنفس لصديقته قطر، وجد في قضية خاشقجي ضالته، فدخل بازار الابتزاز غير المعلن للسعودية وحلفائها، وفي كل مرة يتوقع أن يحظى بعرض جديد فيقوم برفع السعر.
ربما كنا نعتقد أن القيم الأخلاقية العليا هي من تسود العالم، وهي التي ستنصر في النهاية حتى في علاقات الدول بين بعضها البعض، وهي من سيكنس وسخ السياسة، ولكن في كل مرة نزداد قناعة أننا في عالم متوحش، يبحث فيه الجميع عن مصالحه. نحن بالفعل لسنا في مدينة أفلاطون الفاضلة، نحن في مدينة مكيافيلي حيث الغاية تبرر الوسيلة.