المدن تفنى والأفكار تبقى

ما هي القواسم المشتركة بين المدن القديمة مثل اسطنبول والقدس وقرطبة وطليطلة؟ لديهم جميعًا تاريخًا معقدًا كعواصم لمجموعة من الأديان والشعوب، جرى فيها تحويل الكنائس المسيحية المذهلة إلى مساجد كبرى أو العكس؛ تحل المجتمعات اليهودية والكاثوليكية والأرثوذكسية والمسلمة محل بعضها البعض وتتعايش وتتاجر مع بعضها البعض.

لقد جرت ترجمة أعمال لا تقدر بثمن من الفلسفة والعلوم والطب اليوناني في مكتبات القسطنطينية إلى اللغة العربية، مما أدى إلى إنتاج مدارس جديدة للتعلم، والتي انتقلت بدورها عبر الأندلس وإيطاليا إلى الترجمات اللاتينية، لتولد تيارات فكرية أوروبية جديدة من خلال جامعات ناشئة في كامبريدج وباريس.

خلال الحروب الصليبية قاتل المسلمون والمسيحيون بعضهم البعض، ولكنهم أغنوا بعضهم البعض ماديا وفكريا، وازدهرت الطرق التجارية الجديدة بين البندقية والساحل اللبناني، حيث كان التجار الفينيقيون عبر آلاف السنين السابقة يروجون لفنون الكتابة وتصميم الملابس وبناء السفن في جميع أنحاء البحر المتوسط، وجزر البحر الأبيض المتوسط مثل صقلية وقبرص وكريت ومالطا اليوم هي مناطق أوروبية راكدة، ولكن لديها ذكريات تمتد إلى آلاف السنين من الحضارة اليونانية والرومانية والإسلامية والغربية.

استعمر الغرب العالم الإسلامي لفترة وجيزة، لكن العالم الإسلامي قام باستعمار العقول الغربية، عاد الصليبيون المهزومون إلى بلادهم بأفكار جديدة عن الطب والفلك والحرب والوعي بعالم أوسع، وعندما خسر الغرب القدس والقسطنطينية، وخسر العالم الإسلامي الأندلس، بقيت هذه الأراضي كجزء من الخيال الجماعي تراث لا ينضب، واحتفظ بطابعه الرومانسي بعد أن فقدت الأراضي والمباني، وبعد ألف سنة من فقدانها تجد فكرة القدس في كل مكان في الغرب، في الأغاني الشعبية والتصوير والخطاب الديني والسياسي كعنصر لا يمحى للهوية المسيحية الغربية.

يلهث ترامب ونتنياهو في فرض القدس كعاصمة لإسرائيل، ويحثون دولا مثل غواتيمالا وميكرونيزيا وتوغو لنقل مهامها الدبلوماسية إلى القدس، لكن هل هذا يعني أن العالم الإسلامي سينسى القدس؟ بالطبع لا؛ هذه الخسارة المادية لن تؤدي إلا إلى تعزيز الارتباط الفلسطيني والعرب والإسلامي بهذه المدينة المبجَّلة التي تشكل جزءاً مركزياً من كتبنا المقدسة وكتبنا التاريخية.

القدس التي اكتشفت من خلال علم الآثار هي قرية صغيرة نائية، وبعد أن دمرها غزاة البابليين والقبائل العبرية الإثنتي عشرة تلاشت واقفرت الحياة فيها، ثم قامت المجتمعات الهلنستية التي اعتنقت اليهودية فيما بعد باحتضان القدس التي أعيد تخيلها، وإعادة بناءها لتشبه جبابرة، مدينة داود “التي لم تكن موجودة على وجه التحديد، لقد تجاوزت فكرة القدس الواقع التاريخي المتصور.

عندما غزا المغول الأراضي الإسلامية دمَّروا عشرات المدن الشاهقة والشهيرة، مثل بغداد وسمرقند، لكن بغداد عادت للحياة وازدهرت رغم من أعمال العنف والصدامات الأخيرة. يمكن هدم المباني ونهب الكنوز التراثية والفكرية والأدبية وغيرها، ولكن الأرض لا تزال هي الأرض ذاتها، وذاكرة هذه المدن العظيمة تدوم عبر القرون.

عندما أعلن داعش “الخلافة” جاؤوا بمفهوم الحكم من الأيام الأولى للإسلام، وكانت مدينة الرقة الهادئة في يوم من الأيام عاصمة الخليفة العظيم هارون الرشيد، ليس من المستغرب أن هؤلاء الإرهابيين ومجنديهم المخدوعين لديهم أوهام عظمة، لكنهم طُرِدوا من الرقة في نهاية المطاف، وعاد للمدينة شيء من تاريخها.

نحن نتذكر احتلال القدس من قبل الفرسان الصليبيين كمأساة، ويصور أخذ العثمانيين لإسطنبول كواحدة من الكوارث الكبرى في العالم الغربي، ومع ذلك، فإن عظمة هذه المدن تأتي من سلسلة الثقافات هذه التي احتلتها وأثرتها، وكمسلمين، من الصعب الاعتراف بأن جزءًا مما يجعل القدس شيء خاص هو أيضًا تراثها اليهودي والمسيحي، لكننا مجبرون في نهاية المطاف على إيماننا بالاعتراف بهم كأهل الكتاب.

إن مفارقة نتنياهو وترامب التي تزعم أن القدس يهودية هي أنهم ينكرون 90 في المائة مما يجعل القدس مهمة للديانة اليهودية: إذا حاولوا محو المباني والبنية التحتية وتراث القدس الإسلامية، فلن يكون هناك قدس.

الحضارات تزدهر وتندثر، اليوم إسرائيل قوية، لكن إسرائيل هي لحظة في التاريخ، وكل ما تقوم به لن يكون أكثر من إضافة طبقة إلى طبقات القدس المتراكمة قبل أن تتلاشى أو تتطور أو يحل محلها تقاليد أكثر حيوية، فربما سيؤدي السلام في نهاية المطاف مع جيرانهم العرب إلى رؤية إسرائيل تذوب في محيطها الإقليمي.

أخشى على المواطنين الفلسطينيين الذين يعانون من الإهانات والوحشية من الاحتلال، لكنني لا أخاف على القدس، فحتى لو قام الاحتلال الإسرائيلي بما قام به المغول من حرق وتدمير، طالما بقيت الأرض، تبقى الفكرة، والفقدان المادي للقدس يجعل هذه الفكرة أكثر قوة.

سوف تعترف حضارة مستقبلية أكثر استنارة بأن الحدود الدينية والثقافية ليست حدودًا على الإطلاق، تدين الحضارة الغربية بالكثير للحضارة الإسلامية، التي أثرتها التقاليد اليونانية والأوروبية والشرق أوسطية، لا يوجد شيء مميز في الحضارة الغربية والحضارة اليهودية والحضارة الإسلامية، هناك فقط حضارة إنسانية حيث تم إنشاء هويات مميزة عبر قرون من التفاعل.

من ينتمي إلى القدس واسطنبول وقرطبة؟ لا أحد وكل أحد، إنها إرث مشترك لحضارتنا الإنسانية.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s