منذ بداية نشأتهم في مصر مطلع القرن العشرين ظهر الإخوان المسلمون كحركة إصلاح ديني وسياسي، لكنهم تحوَّلوا شئيا فشيئا نحو معظم أشكال التطرف التي نراها من حولنا اليوم، حتى أن الخمينية نشأت من فكرة مفادها ضرورة أن يكون مصير العالم الإسلامي في أيدي رجال الدين.
إحدى الطفرات الغريبة التي انتجتها جماعة الإخوان المسلمين كانت مجموعة صغيرة لكنها مؤثرة عرفت باسم “التكفير والهجرة”، حيث يعتقد هؤلاء الخوارج المعاصرون أن العالم الإسلامي كله – فيما عدا أنفسهم- غارق في الكفر، ولأن 99% من المسلمين قد خانوا تعاليم الدين الحنيف من وجهة نظر أفراد هذه المجموعة، فقد استحق العالم الإسلامي كله والعالم غير الإسلامي كذلك التكفير والتطهير.
لكن هؤلاء الأصوليين فشلوا حتى في الاتفاق فيما بينهم على مقاصد التشريع الإسلامي ومقتضياته، وانتهى بهم الأمر إلى الصراع حول من يملك المرجعية الحقة، وفي نهاية المطاف قامت قوات الأمن المصرية بقمعهم ونقلهم إلى مزبلة التاريخ.
خلال أحداث التسعينيات الدموية في الجزائر، رأينا ظاهرة مشابهة، حيث ذبحت الخلايا الراديكالية عشرات الآلاف من المواطنين الأبرياء، ولكن انتهى بها الأمر إلى ذبح بعضها البعض فيما هم يحاولون أن يثبتوا للآخرين ولأنفسهم إخلاصهم لمبادئهم الدينية السقيمة.
كل الجماعات الطائفية المتطرفة تقريبا تواجه المصير نفسه في نهاية المطاف، فالطوائف اليهودية المتطرفة مثلا تشاجرت كثيرا فيما بينها قبل أن يفرقها الرومان، في حين أن الانشقاق بين الكاثوليك والبروتستانت أدى إلى ظهور الآلاف من الطوائف التي قاتلت وتنافست على إظهار راديكاليتها، كما أنني لم أفهم حتى الآن المبادئ الدينية التي يقوم عليها الصراع الوحشي بين حركات إسلامية متطرفة مثل داعش والنصرة، وأظن أن عناصر تلك الحركات يذبحون بعضهم بعضاً بسعادة، ودون أن يكون لديهم مبرر واضح عن التعاليم الدينية التي استحق أعدائهم الموت لأنهم انتهكوها.
يخبرنا هؤلاء أنه يجب علينا ألا نمزج المسلمين مع غير المسلمين، ويجب فصل الرجال عن النساء في الأماكن العامة، وبعد أن نقطع علاقاتنا مع أصدقاء وزملاء مسيحيين سابقين، سيقال لنا أنه ليس كل المسلمين متساوون، والشيعة والصوفيين ليسوا مسلمين على الإطلاق، ثم نكتشف أنه هناك من بين المسلمين السنة أنفسهم من يخضع للقوانين الوضعية ويتعامل مع بنوك تقليدية، ولا يلتزم بشكل صارم بمجموعة التعقيد المتزايدة من سلطة دينية محددة، لذلك يجب إقصاؤه، وهو في الدرك الأسفل من النار.
ثم وبعد أن نكون فصلنا أنفسنا عن 99 في المائة من إخواننا البشر، نكتشف أنه حتى هذه النخبة الصغيرة من المؤمنين المختارين إلهيا ليسوا على اتفاق ووئام، ويقضون وقتهم بأكمله في الجدل حول قضايا حاسمة مثل اللحية وطول الثوب!.
يروى أن أحدهم في مدينة متشددة دينيا كان يتحدث لصاحبه عن الغرب الكافر الذي أباح زواج المثل وشواطئ العراة، ثم انتقل به الحديث إلى دول إسلامية لا تمنع تجارة الخمور، ثم واصل حديثه بحماسة أكبر عن مدن في بلده تقيم حفلات غناء لمطربين، تنهد بعد ذلك قليلا وأخبر صاحبه أن له معارف في الشارع المقابل لشارعهم لا يصلون الضحى، وفي نهاية المطاف نظر في عيني صاحبه مباشرة وسأله: لماذا لا اشعر أنك كنت خاشعا كما يجب في صلاة الصبح هذا اليوم؟
هذه ظاهرة أو مرض مستشري بين الأصوليين من جميع الأديان، فالمجتمعات الإسرائيلية تمزق حالياً بعضها البعض بسبب اختلافهم على تعريف اليهودية، وبعد أن اتخذ اليهود الخطوة المشكوك فيها قانونياً وأخلاقياً في تعريف جميع غير اليهود في إسرائيل كمواطنين من الدرجة الثانية، اكتشفوا أنهم لا يستطيعون الاتفاق على تعريف لما يعنيه أن يكون المرء يهودياً.
هل يمكن لشخص يهودي بالوراثة لكنه لا يمارس دينه بشكل جدي أن يكون يهوديا؟ ماذا عن المدارس الدينية اليهودية المختلفة؟ ماذا عن شخص يهودي من خلال الزواج أو دخل الدين اليهودي؟ هل يمكن للإثيوبيين السود أن يكونوا يهودًا؟ بالنسبة للعديد من اليهود المتدينين هذه هي الفرصة المثالية للتنديد بمن يتبنون أساليب حياة علمانية، ووسيلة ذكية لتقويض الحاخامات المنافسين الذين تحتوي تصريحاتهم على فتاوى دينية علمانية من وجهة نظرهم.
تستمد هذه الشخصيات الطائفية متعة كبيرة من خلال إخبارها لبقية البشر بأنهم ذاهبون للجحيم لا محالة، هذا لأن الطائفية في الأساس هي كراهية للإنسانية وكراهية للحياة، وإن كراهية الاختلاف والتنوع تبدأ بإدانة جميع الذين لا ينظرون ويصلون مثلنا وصولا إلى التنديد بالإنسانية برمتها.
لا يحتاج اختصاصي علم النفس المؤهل إلى إدراك أن الكراهية للإنسانية في جوهرها هي كراهية للذات، حيث أن أكثر الأفراد الفاشلين وغير المهمين وغير المنتجين في مجتمعنا يتغلبون على كرههم لذاتهم من خلال الهوس بإيذاء الآخرين، ويقومون بتوجيه مشاعرهم بأنهم تافهون فاشلون إلى العالم الخارجي، وإن سرورهم في إلحاق الألم بالآخرين هو نوع من الانتقام ضد عالم لم ينعم عليهم أبداً بالنجاح المادي أو الإحساس بالانتماء.
إن التنوع اللانهائي متأصل في خلق الله تعالى، وهذه الحرب ضد التنوع هي بحق حرب ضد الله وكل ما يؤمن به إيماننا، فيما حب الإنسانية هو حب خلق الله، فماذا يزعجني إذا كان جاري مسيحيا أو بوذيا؟
لقد أعطيت البشرية حرية الاختيار حتى نتمكن من إيجاد طريقنا إلى الله، وليس حتى نقوم بإجبار الجميع على السير على الطرق الغريبة وغير المنطقية التي اخترناها لأنفسنا.