عصر الآلات الجافة

هل يعني العصر الرقمي تفضيلنا للتعامل مع آلة بدلا من إنسان من لحم ودم؟. لقد أدهشني هذا التوجه مؤخراً عندما حاولت فتح حساب بنكي لدى بنك HSBC أثناء إقامتي في لندن، هذا البنك الذي أتمتع بعلاقات طيبة مع موظفيه في البحرين منذ سنوات طويلة، وغالبا ما يشعرون بأنني أزورهم كصديق قديم وليس مجرد متعامل.

دخلت إلى فرع البنك هنا في لندن، ونظرت عبثا حولي علِّي أجد موظفا يسلم علي ويجيب على استفساراتي، لكن لسوء الحظ لم يكن هناك أي كائن بشري، وإنما مجرد آلات عديدة منتشرة هنا وهناك، وبعد القيام بعدد من المحاولات الفاشلة أدركت أن تلك المحاولات لن تجدي نفعا، فاستسلمت وخرجت من البنك غاضبا إلى أبعد حد، بعد أن أهدرت وقتي.

حدث ذلك رغم أني رجل أعمال لديه شركات ومكاتب هنا وهناك إلا أنني لا أتوقع أن أحظى بخدمات الـ  VIP أينما ذهبت، وقد اعتدت على تقدير القيم الديمقراطية للبنوك والمؤسسات الأوروبية التقليدية التي تعامل زبائنه بمودة وإنصاف، سواء أكانوا أمراء أو فقراء، وليس مجرد أرقام أو إحصاءات.

لقد عانيت من إحباط مماثل لمشكلة تتعلق باتصال هاتفي الجوال بالإنترنت في لندن؛ وأمضيت أكثر من ساعة أحاول في جولات مكوكية بين قوائم الهاتف الإلكترونية، وفي نهاية المطاف ساعدني أحد أصدقائي الأصغر سنا على الخروج من هذه المشكلة بعد صبر استثنائي.

أدرك أن هناك وفورات كبيرة في التكاليف والكفاءة عندما تقوم الشركات الكبرى ببساطة بإقالة جميع موظفي خدمة العملاء وتقديم جميع خدماتها إلكترونياً، كما أنني أدرك أن هناك جيلًا جديدًا اليوم ممن يفضل أن تعالج طلباتهم وخدماتهم بهذه الطريقة، وأنا أيضًا أؤيد أشياء مثل الخدمات المصرفية عبر الإنترنت إذا كان هذا يعني أن صاحب الحساب يمكنه إجراء معاملة بسيطة في 30 ثانية بدلاً من هدر الوقت على إجراء تلك المعاملة عن طريق مراجعة البنك.

ومع ذلك، فإن هذه العوامل لا تأخذ في الاعتبار ما نخسره عندما نطرح جانبا البعد الإنساني من مثل هذه التعاملات، وبشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع عملاء جدد أو مساعدتهم في تحديات أكثر تعقيدًا وتطلبًا.

لطالما كان نموذج الأعمال لشركاتي متجذرًا في الخدمة الشخصية، فقد حرصت دائمًا على ضمان أن يكون الموظفين التابعين لي متاحين قدر الإمكان للعملاء، وأحد الأسباب الرئيسية لذلك هو أن كل عميل لديه احتياجات مختلفة للغاية، وإلا كان علي أن أجعل هذا العميل يمضي يومه كاملا في ملء استبيان عبر الإنترنت دون أن أفهم تحدياته وطموحاته من خلال اجتماع لمدة 15 دقيقة، هذا صحيح بشكل خاص في مجال الإعلانات التي أبرع فيه، ولكنه لا ينطبق طبعا على العملاء الراغبين في الحصول على رهن عقاري أو تأمين أو فتح حساب مصرفي.

يقال لنا إن الخدمات الإلكترونية فعالة جدا في توفير الوقت، وبالتالي المال، ولكن إذا أجبرنا العملاء على قضاء ساعات في يتبعون التعليمات الهاتفية دون جدوى، أو إذا كان العملاء يعانون ساعات من الإجهاد والقلق فيما هم يحاولون تنزيل تطبيق من الإنترنت وفهم كيفية التعامل معه، فقد تكون النتيجة ساعات من الوقت الضائع والإحباط لمن يفترض أن نخدمهم.

عندما أزور بنك محلي في البحرين فإن جزءًا كبيرًا من التجربة المتوقعة هو التفاعل البشري، ويمكنني أن أفهم الخيارات المتاحة أمامي، وأتعلم الطرق الحديثة لاستفادتي من الخدمات المصرفية أو الخيارات التي لم أكن أعرف أنها متوفرة، وفي النهاية يمكنني أن أغادر البنك وأنا أكثر ثقة من أن أموالي في أيد أمينة.

لقد استفدنا بشكل كبير من ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات خلال العقود الأخيرة، ولن أقترح أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ومع ذلك، يجب على البنوك والشركات ومقدمي الخدمات أن يدركوا أنه ليس كل حل لخيارات خدمة العملاء هو خيار إلكتروني، وسيظل هذا هو الحال حتى عندما تكون الروبوتات متوفرة تجاريا والتي يمكن أن تفكر وتعمل وتتواصل أسرع ألف مرة من البشر.

اعتدنا على الاعتقاد بأن الأشخاص الأكثر ذكاءً في كوكبنا هم أولئك الذين يمكنهم الاحتفاظ بملايين المعلومات، أو إجراء حسابات معقدة على الفور في رؤوسهم، تمامًا مثل الكمبيوتر، لكن في الآونة الأخيرة يعترف علماء النفس بأن العمليات الأكثر تعقيدا التي يتعين على أدمغة البشر القيام بها هي في تفاعلاتنا مع الآخرين، على سبيل المثال قدراتنا اللغوية على الإقناع أو التحكم أو القيادة أو التمكين، وإن بعض الأكاديميين “الأكثر ذكاء” والعلماء الذين التقيتهم هم أيضا الأكثر عقمًا اجتماعيًا، فهم يستطيعون تقدير العمليات المطلوبة لإرسال كائن إلى الفضاء، لكنهم بالكاد يمكنهم التفاعل مع إخوانهم من البشر!

الموظفون الذين كنت أبحث عنهم دائمًا هم هؤلاء الأفراد الأكثر تطوراً اجتماعياً، الذين يتفهمون بعد عشر دقائق من الدردشة مع العميل التحديات التي يواجهها بشكل أفضل من العميل نفسه، ويقترحون الحلول التي تمكن هذا العميل من الوصول إلى الجماهير المستهدفة والنجاح في أهدافه على المدى الطويل.

ربما يكون العالم قد انتقل إلى عصر الإنترنت، ولكن هذا لا يعني أنه لا توجد أدوار حاسمة للبشر وللتفاعل البشري.

 

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s