تمنحني عطلي الصيفية السنوية هنا في لندن فرصة للتعرف على الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بريطانيا، وحتى أوروبا كلها، وكيف يجري التخطيط لتحديد المسارات السياسية والاقتصادية ليس في بريطانيا وأوروبا فقط، بل في باقي أرجاء العالم أيضا، بما في ذلك عالمنا العربي، لكن الوضع هذا الصيف كان مختلفا تماما، فقد انكفأت بريطانيا العظمى على نفسها وباتت حكومتها مرتبكة ومنقسمة بشكل خطير حول أهم مسألة تواجهها في تاريخها الحديث، وهي الانسحاب من الاتحاد الأوربي “بريكست” المقرر في 2019.
الدخول في التفاصيل المعقدة لمفاوضات “بريكست” بين النافذين في الحكومة البريطانية من جهة، وبين بريطانيا والاتحاد الأوربي من جهة أخرى أشبه بالدخول في دوامة، والمحادثات داخل حزب المحافظين الحاكم، ومع المفاوضين الأوروبيين، تدور منذ عدة أشهر في دوائر مغلقة حول قضايا حاسمة مثل الحدود مع ايرلندا والاتحاد الجمركي.
لقد سعت رئيسة الوزراء تيريزا ماي لإحكام قبضتها على حزب المحافظين المنقسم قبل بضعة أيام، وذلك من خلال استدعاء حكومتها بأكملها إلى مقر إقامتها الرسمي في البلاد وإجبارها على تنفيذ خطتها بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وجرى تحذير وزراء الحكومة من مغبة خروجهم منها إذا عارضوا خطة الانسحاب تلك.
خطة ماي تتوخى رؤية أكثر ليونة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع الاحتفاظ بالترتيبات الجمركية المشتركة، وهي خطة يصفها الكثير من أعضاء حزب المحافظين بالمتساهلة، لذلك لم يكن من المستغرب أنه بعد 48 ساعة من ذلك الاجتماع حدثت موجة من الاستقالات، ليس أقلها استقالة الوزير المسؤول عن تنفيذ “بريكست” ووزير الخارجية بوريس جونسون.
قد يكون المشهد السياسي البريطاني أكثر اضطرابا خلال الأسابيع القادمة، فالعديد من المراقبين يتنبؤون بتصعيد الحملة ضد ماي من قبل نواب “البريكست”، كما أن موقف الحكومة الضعيف قد يؤدي إلى إجراء انتخابات جديدة، وربما صعود حزب العمال إلى السلطة، هذا الحزب الذي يبدو أكثر ارتباكا بشأن “بريكست” من حزب المحافظين المرتبك أيضا.
في الوقت الذي يعتقد فيه العديد من نواب حزبي العمال والمحافظين المعتدلين أنه من الجنون بالنسبة للاقتصاد البريطاني وموقعه العالمي ترك الاتحاد الأوروبي، فإن زعيم حزب اليسار اليميني المتشدد جيرمي كوربين لديه أفكارا مختلفة، وبالنظر إلى أن كوربين لديه أيضًا سجل من التعليقات غير الوديّة تجاه البحرين والمملكة العربية السعودية، فمن الصعب أن تشعر بالإيجابية تجاه أي من الأحزاب السياسية المهيمنة، أو رؤيتهم لعلاقات بريطانيا مع العالم.
إن معظم الناس الذين أتحدث إليهم في لندن، لا سيما الشباب وأصحاب الأعمال، يرغبون بشدة في البقاء مع الاتحاد الأوروبي، ويخشون على مستقبلهم إذا ما ذهبت بريطانيا لوحدها، كما تهدد العديد من الشركات الكبرى بالتخلي عن مقرها في لندن إذا كان هناك تخبط في تنفيذ “بريكست”، فيما الاقتصاد بشكل عام في حالة عصيبة ومكتئبة، ومع ذلك، بمجرد الخروج من لندن والتحدث إلى كبار السن والناس العاديين في المدن الصغيرة يجد المرء حماسة قومية معادية لأوروبا، وهذا ما يوضح انقسام الناس هنا في بريطانيا بشأن قضية الخروج من الاتحاد الأوربي.
كان المستشار البريطاني فيليب هاموند في المملكة العربية السعودية مؤخرا في إطار الجهود المستمرة منذ فترة طويلة لدعم العلاقات التجارية البريطانية مع دول مجلس التعاون الخليجي وأجزاء أخرى من العالم في بيئة ما بعد خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، كما شهد الأسبوع الماضي هنا في بريطانيا احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد ضد سياسات دونالد ترامب المثيرة للانقسام، والتي جعلت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر انعزالية، من الناحية التجارية على الأقل، وهذا ما يصعِّب على الحكومة البريطانية أن تتحدث بثقة عن صفقة تجارية ما مع شريكها الرئيسي، الولايات المتحدة، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
الاتجاهات الانعزالية والقومية القائمة على كراهية الأجانب تدفع بريطانيا بعيداً عن الاتحاد الأوروبي، كما تدفع أمريكا أيضاً بعيداً عن أقرب حلفائها، في وقت نرى فيه أيضا مواقف قوية من الجناح اليميني الشعبوي المناهض للمهاجرين تظهر بقوة في العديد من الدول الأوروبية.
أخشى أن هذه الاتجاهات تمثل واحدة من أخطر التهديدات في عصرنا، فقد نظرت الدول النامية تاريخيا نحو ديمقراطيات غربية “متطورة” كنماذج للإصلاح السياسي والقيم الليبرالية، فيما نرى اليوم أن هذه الاتجاهات الليبرالية والديمقراطية في موقف دفاعي، حيث يهاجم ترامب أفضل أصدقاء أمريكا (كندا وألمانيا واليابان) بينما يغازل دكتاتوريين مثل كيم جونغ أون وفلاديمير بوتين ورئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي.
لقد كانت بريطانيا ذات يوم تميل إلى أن تكون الدولة الأوروبية الأكثر نشاطاً في حشد حلفائها للقيام بدور نشط في الشؤون العالمية –دون أن يعني ذلك تحقيق نتائج إيجابية دائما-، أما اليوم فتبدو بريطانيا وكأنها أمة تسحب نفسها من العالم. بريطانيا العظمى التي كانت لا تغيب عن مستعمراتها الشمس تبدو اليوم في حالة يرثى لها.
لا يمكنني أن أتخيل أنه في أتون الصراعات الكبرى التي يواجهها عالمنا اليوم مجتمعة مثل الحروب والتحديات الاقتصادية والتهديدات البيئية والأيديولوجيات العدائية، نرى أن العالم المتقدم منشغل في شؤونه الداخلية، وأسأل: إذا لم تسهم هذه الصراعات في تعاون كل الأمم لمواجهة هذه التهديدات المشتركة، فما الذي أن يسهم في ذلك؟
كان بإمكاننا توقع أن تكون أكثر النزاعات الشائكة في عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بين الحكومة البريطانية ومفاوضي الاتحاد الأوروبي، وبدلاً من ذلك، يُترك المفاوضون الأوروبيون وهم يجلسون على طرف الطاولة فارغي أفواههم، ينتظرون أن تتوقف الحكومة البريطانية عن الاحتراب الداخلي وتقدم رؤية متفق عليها وقابلة للتنفيذ.
ربما يقدم وضع الحكومة البريطانية حاليا مثالا حيا لحالة العالم اليوم، فبدلاً من الاتحاد لمواجهة التحديات العالمية، نرى السياسيون والقادة منقسمون فيما بينهم، يتعصبون لمواقفهم الشخصية ومصالحهم الضيقة دون الاكتراث بالتهديدات العالمية التي تشكل أكبر المخاطر لنا جميعا.
*رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسيفن القابضة