لدينا نحن العرب ميل كبير لتغليب العاطفة على العقل، والخيال على الواقع، والماورائيات على المنطق، فخطبة حماسية تجمعنا، وعصىً غليظة تفرقنا، نحب العنتريات حتى وإن قادتنا إلى الهاوية، لا زلنا نفعل كما الجاهلية، نصنع من تمر آلهة لنبعدها، فإذا جعنا أكلناها.
مع دخول عهد الانقلابات العسكرية في “جمهوريات” الوطن العربي الذي بدأه حسين الزعيم في سوريا عام 1949 وجدنا أنفسنا نسير مدفوعين بغريزة القطيع خلف زعماء اختارتهم لنا الصدفة، لديهم قدرة خارقة على الانتصار، بل وتحويل الهزيمة النكراء لانتصار، نتغنى بهم وبأمجادهم، نربط مصيرنا ومصير أوطاننا بشخوصهم، فلا وجود للوطن والدولة ولا وجود لنا نحن كشعب إلا بوجودهم.
هناك الآن من يقدس قادة دكتاتوريين دمَّروا أوطانهم، هناك من يهتف بحياة بشار الأسد، صدق أو لا تصدق، أن هناك من يهتف بحياة مجرم حرب مسؤول عن ضياع بلد بأكلمه واستباحتها من قبل كل من هب ودب، ومقتل أكثر من نصف مليون سوري، وضعف هذا العدد من المعاقين، وتشريد نحو سبعة ملايين، وتهديم أكثر من 1.5 مليون منزل، بل وتصدير الإرهاب إلى العراق باعتراف نوري المالكي نفسه، وإلى لبنان باعتراف صديقه ميشيل سماحة أمام القضاء اللبناني.
بشار الأسد وَرِثَ السلطة عن أبيه في نظام جمهوري استولى فيه حافظ الأسد على الحكم بانقلاب تخلص فيه حتى من رفاق دربه من البعثيين وألقى بهم وبالرئيس حينها نور الدين الأتاسي وغيره الكثير في غياهب السجون، واحكم قبضة حزبه الفاشي، حزب البعث، على السلطة بدكتاتورية مطلقة.
والوثائق التاريخية تثبت أن ثمن وصول حافظ الأسد إلى السلطة كان تسليمه الجولان لإسرائيل يوم 10 حزيران 1967، كان حينها وزيرا للدفاع برتبة لواء وأمر إذاعة دمشق بإعلان بيان سقوط القنيطرة كبرى مدن الجولان قبل أن تسقط فعليا، فارتبكت القوات السورية المدافعة عن المدينة وانسحبت لتدخل بعدها قوات الاحتلال الإسرائيلي القنيطرة دون قتال.
هناك أيضا شعبية ليست قليلة لصدام حسين في العراق الذي أشعل وأشغل شعبه بحروب عبثية ختمها باجتياح دولة عربية شقيقة مسلمة هي الكويت، وهناك من يترحم على أيام حكمه لسبب وجيه وهو أن العراق في عهده كان أقل سوءا من العراق اليوم!.
هناك من يترحم على عصر معمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن، وهم قادة لا يسجل لهم التاريخ سوى معارك ونزوات وجنون من أجل الحفاظ على الكرسي، بعيدا عن أية مشاريع إصلاحية أو ديمقراطية أو تنموية أو نهضوية لشعوبهم.
الشيء بالشيء يذكر، وأذكر أنني كنت في الولايات المتحدة الأمريكية في حزيران العام 1967، كنا نشاهد عبر شاشات التلفزة العالمية في ذهول كيف تجتاح الدبابات الإسرائيلية سيناء بعد تعطيل سلاح الجو المصري، وكنت أقول لمن حولي بحماس إن ما ترونه هو فخ من الجيش المصري لاستدراج تلك الدبابات ثم القضاء عليها.
صحونا بعد ذلك على حقيقة الهزيمة المريرة، أكبر هزيمة في التاريخ الحديث للأمة العربية بتمكن دويلة إسرائيل من شن حرب خاطفة احتلت فيها أراضي هي أربعة أضعاف مساحتها، هزيمة تلاشت معها كل الإنجازات التي حققها جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس والصمود في حرب 1956 وبناء السد العالي، وانكفئ الزعيم عبد الناصر وقدم استقالته للشعب العربي، لكنه عاد ليقود الأمة من جديد!.
كل زعيم يحيط نفسه بمجموعة من “الأبواق”، هؤلاء مهمتهم الأساسية تحويل الهزيمة إلى “نكسة”، وخسارة نصف الأرض هي صمود وانتصار ومنع لخسارة الأرض كلها، ولهاث المواطن خلف لقمة عيشه هو تضحية من أجل النصر الكبير المرتقب.
يقول الشاعر الشعبي المصري أحمد فؤاد نجم في أحد قصائده “ألو ألو يا همبكة، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، خطاب خطير يشرح مصير المعركة، عشرين خطاب كمان عشان المعركة، جندنا جيش مليون عشان المعركة، وخبزنا عيش اسود عشان المعركة، نجوع نصوع راضيين عشان المعركة”، حتى يصل إلى قوله “هرشت مخي.. هي فين المعركة؟!”
عندما خسر أدولف هتلر الحرب العالمية الثانية، كان شجاعا بما يكفي ليقرر الانتحار، لأنه عرف أنه لا الألمان ولا التاريخ سيرحمه، أما عدوه اللدود رئيس الوزراء البريطاني آنذاك وينستون تشرشل ورغم خروجه منتصرا من تلك الحرب إلا أنه خسر الانتخابات، لأن الشعب البريطاني كان واعيا، ولم يرد أن يتحول قائده المنتشي بالنصر إلى ديكتاتور.
بالمقابل يسجل التاريخ مواقف شجاعة لقادة عرب أمثال الملك فيصل رحمه الله، وقيامه بقطع النفط عن الغرب الداعم لعدوان إسرائيل على العرب، كذلك وقف الملك فهد بن عبد العزيز موقفا حاسما إلى جوار دولة الكويت ضد الاجتياح العراقي الغاشم، كما نرى الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان يتخذان قرارات حاسمة بالنسبة للحرب في اليمن، والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية في المملكة.
وفي البحرين نجد شجاعة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة بإطلاقه مشروعا إصلاحيا نقل المملكة إلى مصاف الدول المتقدمة حضاريا، وحكمة جلالته بالتعامل مع الأحداث المؤسفة في يناير وفبراير 2011، كما يقود ولي عهده الأمير سلمان مسيرة رؤية البحرين 2030 بحكمة واقتدار.
المشكلة أن القائد الضعيف يحيط نفسه بمجموعة من المعاونين ممن هم أضعف منه، هؤلاء هم “البطانة الفاسدة” التي “تفلتر” كل القضايا الداخلية والخارجية قبل أن تصل إليه، وتحسنها وتجملها في عينيه مهما كانت قبيحة، وهذا ربما يكون مقبولا في أوقات الرخاء، لكنه ضار جدا بل وخطير في أوقات الشدة، حيث أنهم غير قادرين على تقديم النصح والإرشاد واتخاذ موقف القوة والحسم، لأنهم أساسا ضعفاء، إنهم المتكسبين في بلاط السلاطين.
يحدث كل ذلك فيما الشعوب العربية مسكينة مستكينة، تخاف من كل شيء، من الحاضر، ومن المستقبل، تقنع نفسها بوضعها الراهن حتى لو كان مزريا، خشية من أن يكون القادم أسوأ.