القدس تتعذب، القدس تتألم، ويتألم معها سائر مدن وقرى الضفة الغربية وقطاع غزة، وشهداء يسقطون بالعشرات فيما هم يقاومون بأدوات بسيطة احتلال وحشي غادر، أما نحن فنتابع المشهد من خلف شاشات التلفاز كما كنا طيلة الأعوام الخمسين الماضية، نقلب يدا على يد، نعتصر ألما، لا حول لنا ولا قوة.
من المشاهد المؤلمة في فيلم القدس التراجيدي الطويل، رؤية السفارة الأمريكية تنتقل إلى هناك في خطوة لم تشهد حضورا دبلوماسيا رفيعا لكنها تحمل مدلولات خطيرة وتضفي المزيد من الشرعية العالمية على الاحتلال، وتشجعه على المضي قدما في ممارساته.
إن الألم يعتصر قلب كل عربي، مسلما أو مسيحيا أو حتى يهوديا، يحمل بين جنباته جرحا غائرا وقلبا مكسورا، فيما القدس تئن تحت وطأة احتلال بغيض، وممارسات يومية نكراء تهدف إلى تشريد المقدسيين وصبغ مدينتهم بالصفة اليهودية عنوةً، المدينة التي عُرفت عبر التاريخ بالتنوع واحتضان جميع الأديان والأعراق.
لقد مرت القدس عبر التاريخ بعصور مختلفة من الازدهار، ومن المآسي والمحن، وتناوب عليها الغزاة، لكنها لم تفقد أبدا شخصيتها وتنوعها وقيمها، ولن يستطيع أحد أن يطمس معالمها ويلغي مكانتها كملتقى لجميع الأديان السماوية.
اليهودية دين منتشر في كل مدن العالم تقريبا، فلماذا يريد قادة إسرائيل إسباغ صفة اليهودية على دولتهم المزعومة في فلسطين؟ لماذا يصرون على المضي قدما في طريق التشدد الديني كما هي الحال في إيران مثلا؟.
لطالما رددنا مقولة أن “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، لكن أعدائنا لا يهدرون أي دقيقة من وقتهم دون أن يزيدوا قوتهم وتحصيناتهم واستعداداتهم للمواجهة، فيما الحكومات العربية مشغولة بقضاياه الداخلية وخلافاتها البينية، والمواطن العربي المسكين مشغول بتدبير لقمة عيشه وعيش أبنائه.
في محادثات مدريد الشهيرة التي جرت العام 1992 ذهب العرب إلى هناك بـ “طيب نية” معتقدين أن من يجلس أمامهم على الطاولة يحمل نية صادقة في السلام ووضع الحرب جانبا، لكنهم وجدوا أنفسهم منذ ذلك الحين ندخل حربا أخرى أشد ضراوة، ووجدنا تفاوتاً كبيراً بين فهمنا كعرب للسلام وفهم الإسرائيليين له، فيما نحن نتحدث عن “سلام عادل” يسعى الإسرائيليون إلى السلام المفضي إلى المزيد من قضم الأرض، وبناء المستوطنات، وتصفية القضية الفلسطينية برمتها.
ربما ينظر قادة إسرائيل العسكريين إلى الخارطة فيرون المسافة التي تفصلهم عن إيران أو تركيا والتي تشغلها دول عربية، مساحات فارغة، لا تثير اهتمامهم، ويضعون خططتهم الهجومية أو الدفاعية على هذا الأساس.
في ظل هذه الظروف هل يجب أن نمل من الدعوة لوضع خلافاتنا المذهبية جانبا؟ وتوحيد الجهود العسكرية والإعلامية واللوجستية تجاه هدف واحد، وهو تحرير القدس، طالما أننا جمعيا كعرب، إضافة إلى إيران وتركيا نقول إن هذا الهدف هو أولويتنا القصوى؟
القدس لا زالت قضيتنا الأولى، رغم كل الضباب في الصورة، ويجب ألا نغرق في مشاكلنا اليومية والحياتية ونسمح لاهتمامنا بقضية القدس أن يتراجع، ويجب أن ننطلق جميعا من ثوابت أن القدس مدينة فلسطينية عربية، وهي العاصمة الأبدية لدولة فلسطين، وهي السلام، ولن يكون هناك سلام من دون أن يعود الحق إلى أصحابه، وأن أهل القدس خصوصاً، وشعب فلسطين عامَّة، يقدمون، بتضحياتهم وبطولاتهم، الدليل على أنه مهما طال الزمن، ومهما اتخذ المحتلون من إجراءات، فإن قضيتهم العادلة لا تموت، وإن النصر سوف يتحقق حتماً لشعب فلسطين.
ويجب أن نحافظ على جذوة القدس متقدة في ذواتنا، وننقلها إلى أولادنا وأحفادنا، وأن نساند دائما الشعب الفلسطيني في كفاحه من أجل تحقيق كل ما يتطلع إليه من آمالٍ وطموحات، وتمكينه من بناء دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف، وتشجيع الفلسطينيين على رأب الصدع وتحقيق الوحدة الوطنية مرة أخرى.
ولا يجب أن نسمح بمحاولة الإسرائيليين إعطاء طابع ديني للصراع، ومطالبتهم العالم والسلطة الفلسطينية تحديدا بالاعتراف بفلسطين دولية يهودية.
فنحن نعرف أنه قبل الميلاد بنحو ثلاثة آلاف عام، كانت أولى الهجرات العربية الكنعانية إلى شمال شبه الجزيرة العربية، واستقرت على الضفة الغربية لنهر الأردن، أي المنطقة الجبلية من فلسطين، منسابة إلى البحر المتوسط. وسميت الأرض: من النهر إلى البحر، بـ “أرض كنعان”، وأنشأ هؤلاء الكنعانيون مدينة (أورسالم)، ثم استقبلت تلك المنطقة ـ 2500 ق.م ـ بعض القبائل القادمة من جزر البحر المتوسط، تسمى قبائل (فلستين)، إلى سواحله الشرقية الجنوبية، عُرفوا بسكان السواحل أو (بالستين).
وقد اختلط هؤلاء المهاجرون الجدد بالكنعانيين، لكن غلب الدم الكنعاني على هذا الشعب، وغلب اسم (بالستين) على المكان، وتؤكد أعمال التنقيب البريطانية التي تمت في تلك المنطقة، عام 1961، أن الوجود الكنعاني اليبوسي بها، وبالقدس تحديداً، يعود إلى ثلاثة آلاف عام.
لهذا تعتبر الغزوة الصهيونية الأخيرة التي حدثت في العام 1967 الغزوة الحادية والأربعين للمدينة، وهي في الوقت نفسه أقصر الغزوات لفترات الاحتلال عمراً بين ما تعرضت له المدينة من احتلال وغزو. ومع ذلك ظل الأساس السكاني الغالب ( طوال تاريخ القدس الطويل) وبعد تحرير المدينة طوال عصور التاريخ كانت القدس تعود إلى أصولها ووضعها الطبيعي بعد زوال الاحتلال الأجنبي.
يقول المؤرخ هـ. ج. ويلز “إذا كان سليماً إعادة بناء الدولة اليهودية التي لم توجد من ألفي سنة على الأقل، ألا يكون من الأسلم العودة ألف سنة أخرى وإعادة بناء الدولة الكنعانية العربية؟!”.