المصلحة تقتضي المصالحة

 

فيما كنت أتابع مؤخرا عبر التلفاز الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ يخطو من فوق “الحد العسكري” الفاصل بين بلاده وكوريا الجنوبية ماداً يده ليصافح نظيره الكوري الجنوبي مون جاي، استحضرت بذاكرتي كيف كنت شاهد عيان على هدم الألمان لجدار برلين في العام 1989، وكيف أسَّست تلك اللحظة لنهضة أوربية شاملة أبعدت عنها شبح التناحر والشيوعية.

هذه المصافحة التاريخية بين الرجلين تبشر باتفاق من شأنه أن يضع نهاية لحرب بدأت قبل فترة طويلة جدا، حرب لطالما كانت على شفا تحويل شبه الجزيرة الكورية إلى رماد، لكن كوريا الشمالية فاجأت العالم باستدارتها هذه الأيام، وتخليها عن سلاحها النووي، وانفتاحها على المجتمع الدولي.

علينا أن نفرك أعيينا أكثر من مرة لنصدق أن الوئام عاد ليسود بين “الشقيقتين اللدودتين”، لأننا اعتدنا على سماع الأطراف المتنازعة تنعت بعضها البعض بالإرهاب والإجرام وترفض حتى الجلوس في نفس الغرفة للتفاوض، وغالباً ما يستغرق الأمر سنوات من التحضير والمحادثات الشاقة السرية والعلنية قبل أن يتم النظر في اجتماع عام لقادة الجانبين.

تبدو لمسات الرئيس الصيني شي جين بينغ واضحة في إعادة كوريا الشمالية للحظيرة الدولية، لِمَ لا وقد قالت فيه مجلة إيكونوميست أنه رجل دبلوماسية عالمي وصاحب نفوذ أكبر من نفوذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؟!.

كل ما حصل يدفعنا لطرح السؤال التالي: إذا كان بإمكان الكوريين الشروع في المفاوضات على هذا النحو المتحضر والمستنير، فلماذا لا يمكن تبني مثل هذا النموذج في منطقتنا التي تنقسم بسبب الكثير من الصراعات؟

إن فكرة اللقاء الودي بين نتنياهو وأبو مازن أو قادة حماس تبدو سخيفة أو كوميدية، وبالمثل كلما التقى جميع أو جزء من الفرقاء السوريين كانت مناسبة لتسجيل النقاط ضد بعضهم البعض، والصراعات الأخرى طويلة الأمد مثل نزاع الصحراء الغربية أو بين تركيا واليونان حول قبرص قد نسيها العالم تقريباً، دون أي أمل في التوصل إلى حل.

وسط الابتسامات، من السهل أن ننسى أن كيم جونغ أون ديكتاتور لا يرحم يقمع شعبه بوحشية، ويغتال أعضاء من عائلته برشقات من مدفع رشاش، ولا ينبغي لأحد أن ينسى من هو وما يرمز إليه؛ لكن لا يمكن القول إن هذا لا يمنع الكوريين أنفسهم والقوى العالمية الأخرى من بذل الجهود لنزع فتيل توترات إقليمية خطيرة، وفي الواقع من المؤكد أن إبرام اتفاق سلام سيجبر نظام كيم على التغير، خاصة إذا كان الزعيمان جديين في خطابهما بشأن إعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية بطريقة ما.

من السهل دائماً التذرع بألف سبب لعدم صنع السلام: “أعداؤنا لا يفهمون إلا لغة القوة”، “علينا أن ننتقم لشهدائنا”، “لماذا يجب أن نتفاوض مع الإرهابيين؟”…، لكن النتيجة هي أننا نبقى في دائرة مفرغة من النزاعات والحروب، وكل طرف يرى أن السلام يبدأ بعد حصوله على كل شيء وسحق الآخرين، فيما الأمر يتطلب شجاعة أكبر لوضع مظالم شخصية وفئوية جانبا وبذل جهود مخلصة لتحقيق السلام.

التاريخ علمنا أهمية التسامي على الألم والجراح، الرسول الأكرم عاد إلى مكة ولم ينتقم من أهلها الذين اضطهدوه، بل قال لهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، كما أن نيلسون مانديلا لم يحرض السود على الانتقام من البيض الذين ظلموهم لعقود، وليس هناك الآن ولايات جنوبية وشمالية وإنما الولايات المتحدة الأمريكية، هذا غيض من فيض قصص مصالحات عظمى شهدتها البشرية وأسست لعصور من الاستقرار والازدهار.

لقد تعلم الكوريون من أخطائهم، فلو توفرت لدى الأطراف المتحاربة في العام 1953 البصيرة لوضع خلافاتهم جانبا، فإن تاريخ تلك المنطقة كان سيختلف كثيرا، وفي الحقيقة إن الزمن كفيل بحل الصراعات المزمنة، لكن من المؤكد أنه لا ينبغي أن تكون القاعدة أن كل صراع يجب أن ينتظر سبعين عامًا قبل الوصول إلى حل نهائي.

في الصراع السوري نفتقر إلى قوة كبرى مثل الصين لديها الرغبة والإمكانية على إجبار كل الأطراف على صنع السلام، ومع أن السوريين جمعيهم لديهم مصلحة مشتركة في إنهاء صراعهم الدامي إلا أن المشكلة هناك هي أن أطراف مثل روسيا وتركيا وإسرائيل وإيران وأمريكا متناقضة جوهرياً، وهذا ينعكس على وكلاءهم السوريين ويحرمهم من التفاوض بوطنية وحسن نوايا.

توضح الدبلوماسية الصينية في كوريا السبب في أن بكين ربما هي نوع من القوة العالمية التي نحتاج لرؤية المزيد منها، فبدلاً من معركة الغرور التي نراها بين بوتين وترامب، لا نكاد نلاحظ الدبلوماسيين الصينيين على الساحة الدولية، وهو أمر يساعد على تجنب تعقد الصراعات وتحولها إلى تهديدات عضلية أو طفولية.

في النزاع بين قطر وأعضاء آخرين في مجلس التعاون الخليجي، نرى بالفعل علامات تدل على أن الدوحة تتخذ تدابير من شأنها أن يصبح الانقسام دائما، من بينها التمسك بالقاعدة العسكرية التركية، ومزيد من الارتماء في حضن طهران.

وعلى الرغم من أننا لسنا في حالة حرب مع قطر، إلا أن هناك عوامل مماثلة للوضع الكوري، فنحن نتشارك اللغة والثقافة الخليجية المشتركة وحتى العلاقات العائلية القبلية، وربما تخلى النظام في الدوحة عن أمله في المصالحة وبات أكثر إصرارا وعلانية في تبني آيات الله في طهران وغيرها من الجماعات الإرهابية، ومع ذلك فإن الإرث الخليجي المشترك سيتغلب مرة أخرى على العقبات السياسية المؤقتة.

وباعتبارنا عربا، لا سيما في منطقة الخليج، نحن نتميز بحس الفخر المهيمن: الفخر في قبيلتنا، أمتنا، ثقافتنا وسمعتنا، هذا الفخر هو نعمة بلا شك، ولكنه نقمة ولعنة عندما يجعل من المستحيل تقريبا أن نسامح من ارتكب أخطاء في حقنا وحق أبناء بلدنا، فتتراكم النزاعات ويزداد الميل نحو الانتقام، ويصبح الفخر الذي يعني عدم قدرتنا على الصفح والنسيان مصدرا للضعف.

أنا أدعوا لاستنساخ حالة التصالح الكورية في منطقنا، لكني في الحقيقة أخشى أن يكون تبريد الصراع في كوريا سيؤدي إلى تسخينه أكثر في الشرق الأوسط، خاصة وأن القوات الأمريكية الضاربة في كوريا ستبحث عن أمكان أخرى تتمركز وتعمل فيها، كما أن تجار السلاح وصنَّاع الحروب لن يكونوا مسرورين بخسارة بؤرة توتر مهمة في العالم، وسيعملون على تعويضها سريعا.

أقرأ التاريخ، وانظر إلى منطقتنا، وأتساءل أحيانا فيما إذا كانت النزاعات والحروب بين الأشخاص والشعوب هي الحالة الطبيعية، فيما فترات السلام هي الاستثناء، أو هي مجرد “استراحة محارب بين معركتين”، لكني أعود للقول إن العقل الجمعي لنا كبشر يجب أن يقودنا لتجنب ويلات الصراع وعدم ترك الدماء تسيل إلى ما لانهاية.

بدلاً من إجبار شعوب هذه المنطقة على مواجهة العواقب الرهيبة وعديمة الجدوى لعقود من المواجهات التي لم يتم حلها على جبهات متعددة؛ لنأخذ درسا من قيادات كوريا ونعجل بالاجتماع معا بروح من النوايا الحسنة وصنع السلام.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s